خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أعرب دونالد ترامب مرارا عن شكوكه في جدوى حلف شمال الاطلسي. وعلى الرغم من قوله إنه لا يريد للولايات المتحدة الانسحاب من الحلف، أثارت انتقاداته توقعات حلفاء الولايات المتحدة.
وشملت تصريحاته الأكثر اعتدالا- وسبق أن أدلى بها آخرون قبله- توبيخ شركاء بلاده لعدم دفع نصيبهم العادل من نفقات دفاع حلف شمال الأطلسي. وقال أثناء حملته “ينفق أربعة أعضاء فقط من 28 دولة عضو أخرى إلى جانب أمريكا الحد الأدنى المطلوب 2% على الدفاع” وجاء تصريحه في أبريل/نيسان أثناء الحملة الانتخابية. وأضاف أيضا أن حلف شمال الأطلسي “لا يغطي الإرهاب مثلما كان مفترضا”.
واصل الرئيس المنتخب هجماته الحادة ووصف الناتو بأنه “عفا عليه الزمن” ، بل أنه تحدث مرارا بما يجعل دفاع الولايات المتحدة سلعة مشروطة. وقال في أكثر من مناسبة “اذا لم يدفعوا فواتيرهم، فعليهم أن يرحلوا بصراحة”.
وفي حالة الهجوم الروسي ضد أعضاء الحلف في بحر البلطيق قال ترامب أن الولايات المتحدة سوف تتحرك لنجدتهم، “بشرط الوفاء بإلتزاماتهم لنا.” وعند مناقشة انسحاب محتمل لقوات الولايات المتحدة، “إذا كان علينا الدفاع عن الولايات المتحدة، يمكننا دائما نشر القوات (من الأراضي الأمريكية)، وسيكون ذلك أقل تكلفة بكثير”.
وكان من الطبيعي ان يتوجس القادة الحلفاء، إزاء هذه التصريحات، خاصة تلك التي تلمح الى علاقات أوثق مع الرئيس الروسي بوتين، وحتمية حصول اليابان وكوريا الجنوبية على أسلحة نووية.. ولم يتحدث الرئيس الكوري بارك جيون هاي مع ترامب إلا بعد يومين من الانتخابات، بينما كان أمين عام الناتو ينس شتولتنبرج يحاول طمأنة الأخرين (وربما طمأنة نفسه) إلى أن الحلف سيبقى دون مساس. وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني، وصل رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الى ترامب تاور لمقابلة الرئيس المنتخب، كأول رئيس أجنبي يزور الر ئيس الجديد. وأكد ترامب، في هذه المناسبات وغيرها التزامات بلاده تجاه حلفائها.
ويرى فرانسوا هايسبورج في مجلة فورين أفيرز، أنه ليس من الواضح في هذه المرحلة، أي وعود ترامب التي ستؤتي ثمارها وإلى أي مدى ستكون التحالفات الأمريكية عبر الأطلسي قوية أو ضعيفة. لكنه يوضح أن الماضي يوفر بعض التبصر.
تاريخيا، تميل بعد التحالفات الدفاعية إلى أن تكون قصرة العمر نسبيا، وتكون طبيعتها مشروطة بشكل عام. وعلى سيل المثال، شكلت الولايات المتحدة عددا من التحالفات الطارئة، من التحالف المؤقت مع فرنسا، أثناء الثورة الأمريكية الى التحالفات قصيرة الأمد خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد هجمات٩/١١ طرح دونالد رامسفيلد ـ وزير الدفاع وقتها ـ فكرة أن التحالفات مشروطة بالظروف الاستراتيجية المتغيرة. وكتب أثناء استعداد إدارة جورج بوش لغزو العراق “في هذه الحرب، سوف يتحدد التحالف على أساس المهمة.
وفي ضوء هذا السياق، يعتبر التحالف الأطلسي متعدد الأطراف في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحالفات “المركز والأطراف” بين الولايات المتحدة وشركاء رئيسيين في أسيا على المحيط الباسيفيكي، تطورات حديثة نسبيا. وعلى الرغم من ذلك، فقد امتدت ثلثي قرن، وأثبتت أنها دائمة ومرنة للغاية.
وتحول الحلف من نظام أمني أوروبي للمواجهة بين الشرق والغرب، إلى نظام للحرب ـ مركزه الغرب ـ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، شن الناتو من خلاله أول حروبه في منطقة البلقان. وفي وقت لاحق، تدخل في أفغانستان وليبيا. وتضاعفت عضوية الحلف تقريبا في نفس الوقت.
وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تحول تركيز نظام واشنطن للمراكز والأطراف، من احتواء الاتحاد السوفييتي إلى تحقيق التوازن مع الصين الصاعدة. وأثبتت التحالفات الآسيوية والأوروبية، قدرتها على حل التوترات الداخلية بين أعضائها، سواء كان عدم الثقة الحاد والمستمر بين اليابان وكوريا الجنوبية، أو خروج فرنسا من هيكل القيادة العسكرية للناتو بين عامي 1966 و 2009، أو الجدل المستمر حول تقاسم الأعباء.
وفي الواقع، أثبتت هذه التحالفات قوتها، وقدرتها على التكيف مع الظروف المحيطة بقيامها.
وصاحب النظام الكثير من العوامل المعطلة، مع انتشار القوات الأمريكية بشكل دائم في أوروبا وآسيا. فضلا عن الدمج الحاد بين أنظمة القيادة والسيطرة، ووجود المعايير الفنية والإجرائية المشتركة على جميع المستويات، وأضافت المراقبة المشتركة لساحة المعركة المحتملة أعباء إضافية إلى التحالفات. وإجمالا، يوفر هذا النظام للولايات المتحدة مناطق استراتيجية بعيدة لا مثيل لها، من النوع الذي تتطلع إليه الصين وروسيا.
ويوضح هايسبورج أن هذا لا يعني أن خطاب ترامب الضار، ونهوض النزعة الشعوبية في جميع أنحاء الغرب لن يجهد نظام الحفل، الذي صار على المحك في الواقع أكثر من أي وقت مضى.. والمشكلة مع وعود حملة ترامب الانتخابية، أن شركاء واشنطن يتوقعون من الرؤساء الأمريكيين، الذين يدينون بالفضل لناخبيهم، أن يفعلوا ما ما تعهدوا به. وبطبيعة الحال، يمكن للواقع أو الحس السليم الاستراتيجي دفع رئيس في اتجاه مختلف.
ولكن لا يمكن المراهنة على ذلك؛ فلم ينتخب بوش لغزو العراق، ولكن 11 سبتمبر أتاح له صلاحية القيام بذلك، حتى لو كانت النتيجة غير سعيدة، كما كان متوقعا. ولا يمكن للزعماء الأجانب طمأنة أنفسهم عبر افتراض أن لغة ترامب العدائية، مصممة خصيصا لإرضاء جمهوره في لحظة، وخاصة أنه يمكن تفسيرها على نحوين. وهذا قد يعني أن تصريحاته المستفزة ترامب ينبغي ألا تؤخذ على أنها إعلان جاد للنوايا.
ويزيد من القلق، الانقسام بين الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الاطلسي بشأن كيفية الرد على التحديات الأمنية المستمرة، مثل الصراع في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن موقف المملكة المتحدة في حلف شمال الاطلسي لن يتغير، كعضو غير مهتم، تطغى عليها المفاوضات حول «بركسيت».
وحقق نجاح الشعبوية في جميع أنحاء العالم الغربي أيضا الى جانب بوتين فرصة لأولئك الذين يسعون إلى تحسين صورتهم عبر مكافحة النخبة. الأمر الذي صب الزيت على نار السياسات المناهضة للحكومات بينما تدخل فرنسا وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا في انتخابات محفوفة بعدم اليقين.
وبالفعل، تفضل عدة دول في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بلغاريا وجمهورية التشيك، والمجر، استيعاب روسيا. في حين شكل دخول الحكومات شبه السلطوية في المجر وبولندا، تحديا لمفهوم القيم المشتركة داخل الاتحاد الأوروبي والناتو. وفي هذه اللحظة، تشبه أوروبا منزلا من الورق يمكن أن ينهار مع أدنى هبة ريح.
ويتوقع هايسبورج أن يقع السيناريو الأسوأ خلال العام المقبل، ويأخذ التحالف الأوروبي متعدد الأطراف في الانهيار، وسوف يؤثر ذلك في نهاية المطاف على آسيا والمحيط الهادئ. ويمكن أن يتكشف ذلك عبر عدة طرق:
يتوقف أولها على خطة حلف شمال الاطلسي لتعزيز وجوده في أوروبا الشرقية. ففي الفترة منمن ابريل الى مايو 2017، سوف يبدأ الناتو “تعزيز التواجد” في دول البلطيق وبولندا، طبقا للقرار الصادر في مؤتمر قمة الحلف الذي عقد في وارسو 2016. وينطوي هذا، بشكل خاص، على نشر قوة أمريكية في بولندا. ومن شأن إبطال هذه المساهمة الأمريكية الرئيسية في خطة تعزبز التواجد، أن يرسل إلى الأصدقاء والأعداء على حد سواء إشارة واضحة عن تحلل الولايات المتحدة من التزامها.
والثاني هو أنه مثلما تحدى بوتين الولايات المتحدة وحلفائها من خلال التدخل في المناطق الاستراتيجية الرمادية من أوكرانيا (مثل شبه جزيرة القرم ودونباس)، فمن الممكن أن يواصل التخريب في بعض مناطق البلقان لا تنتمي إلى حلف شمال الاطلسي ولا الاتحاد الأوروبي (مثل كما البوسنة وكوسوفو ومقدونيا وصربيا).
ويمكن أن يعطي توسع الناتو إلى الجبل الأسود ـ وهي دولة هامشية من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للاتحاد الأوروبي لكنها تحمل قيمة دينية وتاريخية كبيرة بالنسبة لروسيا ـ مبررا لبوتين من أجل التدخل واختبار القرار الأمريكي.
ففي السابق، كان الرئيس الروسي يرد بقوة شديدة كلما شعر بطعنة من قبل الغرب: عندما أعلنت كوسوفو استقلالها، أثار بوتين الحرب في جورجيا عبر الاعتراف بدولتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وعندما حاولت أوكرانيا تغيير النظام الحاكم، ضم بوتين شبه جزيرة القرم. ويمكن أن تندلع أزمة أيضا في ترانسنيستريا، مولدوفا، ذات الأغلبية الناطقة بالروسية، فيستخدمها بوتين اذريعة للتدخل، أو يعمل على استبدال الرئيس الكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا بزعيم أكثر موالاة لروسيا.
ويعتبر الاتفاق النووي الإيراني، الطريقة الثالثة التي يمكن لترامب ان يعطل بها التحالف، وكان قد تعهد بالتخلص من الاتفاق، أو “إعادة التفاوض بشأنه”، أو تطبيقه “كما لو أنك لم تشهد اتفاقا من قبل.”
وفي غضون أربعة أشهر إلى عام من بداية ولايته سيكون على ترامب أن يقرر ما إذا كان سيجدد مجموعة التنازلات التنفيذية التي طرحتها الحكومة المنتهية ولايتها، ورفعت مؤقتا بموجبها بعض العقوبات ضد إيران. وسيكون اختيار عدم تجديدها مؤشرا على نيته الانسحاب من الخطة الشاملة لعمل المشترك، الأمر الذي سيواجه معارضة جماعية من الموقعين الآخرين: الصين، الاتحاد الأوروبي، فرنسا، ألمانيا، روسيا، والمملكة المتحدة.
في مواجهة هذه التحديات، يمكن أن تبحث أوروبا عن المجالات التي يمكن أن تعزز التعاون فيما بينها. وأشار المتحدث العسكري باسم الحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم في ألمانيا،إلى أن فرنسا والمملكة المتحدة يمكن أن تتدخلا لتقديم ضمانات نووية لحلفائهما الأوروبيين.
ولكن هذا في الواقع، ما كان عليه الحال منذ عام 1974 ـ وإن كان سرا ـ عندما أعلن حلف شمال الأطلسي أن هذه القوات النووية تساهم “في تعزيز قوة الردع بشكل عام لدى الحلف في أوروبا.” كما يحد أيضا من فكرة أن يرحب الألمان ـ المعادين للنووي فطريا ـ بتجديد الاعتماد على الردع النووي.
وهكذا، فإن رد فعل الأرجح لفقدان ضمان أمن الولايات المتحدة، أن تتحوط أوروبا ضد الضغوط الروسية المتوقعة، عن طريق سن سياسات موالية لروسيا، مثل تعزيز الاتجاه الموالي لروسيا الذي أرسته المجر وجمهورية التشيك بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
ويكون هناك أيضا تحول من منظمة حلف شمال الأطلسي متعددة الأطراف، إلى عقد اتفاقيات ثنائية بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وفي أوروبا بهذا الحال، سيكون لدى روسيا فرصة كبيرة لتعزيز روابط كومنولث الدول المستقلة ما بعد الحرب الباردة، في محاولة لبسط النفوذ.
ولا شك أن شركاء الولايات المتحدة في شرق آسيا سوف يستخلصون دروسا مشابهة، وقد يسعون الى اتباع سياسات أمنية موالية للصين. وتمثل الفلبين مثالا مبكرا على السياسات الجديدة المولية للصين الجديدة بعد فترة طويلة من التحالف مع الولايات المتحدة.
كما يمكن أن تبحث أيضا تحصين سياساتها الدفاعية الوطنية، وقد تسعى البلدان التي سبق أن فكرت في انتاج أسلحة نووية، مثل أستراليا وكوريا الجنوبية، للحصول عليها. وبطبيعة الحال، لا يعتبر أي من هذه التوقعات. لكن ترامب ساهم في جعل مثل هذا السيناريو احتمالا قائما.
وفي النهاية، يقترح هايسبورج على الإدارة الأمريكية القادمة أن تعمل بدقة وبسرعة من أجل إحباط هذه التوقعات. غير أن أحدا لا يستطيع تخمين ما إذا كان الرئيس الجديد ـ الذي لم يختبر ـ وفريقه للأمن القومي سوف يعملان بدقة وعلى نحو سريع لتفادي ذلك.
الأمر المؤكد، أن المخاطر التي تهدد الاستقرار العالمي واستمرار قوة الولايات المتحدة ونفوذها، في أعلى مستوى لها.
المصدر: وكالات