تشهد ألمانيا تحديات جمة تهدد بتقويض مكانتها كصاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، فبعد عقود من الازدهار، يواجه اقتصاد البلاد اليوم رياحاً معاكسة تتمثل فى شيخوخة القوى العاملة، ونقص الاستثمارات، وجمود تنظيمى.
وسط هذه الظروف، تبرز تساؤلات ملحة حول مدى امتلاك المحافظين بقيادة فريدريش ميرتس، الأدوات اللازمة لإنقاذ الاقتصاد الألمانى المتعثر، وإعادة إحيائه؟
ومن المقرر أن يقود التحالف المحافظ المكون من الاتحاد الديمقراطى المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي ألمانيا مرة أخرى بعد الانتخابات الفيدرالية، التي جرت أخيراً، حيث تعني النتائج أن مرشح حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى فريدريش ميرتس من المرجح أن يتم تنصيبه كمستشار ألمانيا خلفا لأولاف شولتز بعد انهيار ائتلافه المكون من ثلاثة أحزاب نهاية العام الماضى.
ويشير تقرير نشره موقع “يورونيوز”، إلى أن “ألمانيا بحاجة ماسة إلى إجراءات حاسمة لتجنب الركود. فالاقتصاد الألمانى، الذي لطالما اعتمد على ثلاثية هشة من الطاقة الروسية الرخيصة، والمظلة الأمنية الأمريكية، والسوق الصيني المزدهر، يواجه اليوم واقعاً جديداً يتطلب إعادة تقييم شاملة”.
ويضيف التقرير: “وفي هذا السياق يبرز دور المحافظين، بقيادة فريدريش ميرتس، كقوة سياسية رئيسية قادرة على قيادة عملية الإصلاح. فالمحافظون، الذين يتبنون تقليدياً سياسات مالية محافظة، يواجهون اليوم تحدياً يتمثل في إيجاد التوازن بين الانضباط المالي والاستثمار العام الضروري لتحفيز النمو”.
وبحسب التقرير، فإن “إعادة الضبط يجب أن تبدأ بالسياسة المالية. لقد حدّت (مكابح الديون الدستورية) في ألمانيا، التي تحدد العجز الفيدرالي بنسبة 0.35 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بشكل كبير من الاستثمار العام. إن الحكمة المالية أمر يستحق الثناء، ولكن تطبيقها الصارم قد حرم البنية التحتية والرقمنة والتحديث الصناعي من الأموال التي تشتد الحاجة إليها. ففي عام 2021، بلغ الاستثمار العام 2.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي – وهو أقل بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 3.4 بالمئة”.
وتشير دراسة أعدتها جمعية صناعات الطاقة والمياه الألمانية (BDEW) بالاشتراك شركة الاستشارات EY إلى أن ألمانيا يجب أن تستثمر ما لا يقل عن 600 مليار يورو على مدى العقد المقبل لتحديث البنية التحتية، وتعزيز التعليم، ودفع عملية إزالة الكربون – باستثناء الموارد الإضافية المطلوبة لزيادة الإنفاق الدفاعي. ويتغير الرأي العام وفقاً لذلك، إذ يدعم 55 بالمئة من الألمان الآن إصلاحات “مكابح الديون”، بما في ذلك 55 بالمئة من ناخبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) و41 بالمئة من مؤيدي الحزب الديمقراطي الحر (FDP).
ويمثل نقص العمالة تحدياً ملحاً بنفس القدر. إذ تتجه ألمانيا نحو فقدان سبعة ملايين عامل بحلول عام 2035، وهو تحول ديموغرافي يهدد بتقويض الإنتاجية. لرفع معدل النمو المحتمل لألمانيا إلى متوسطه طويل الأجل البالغ 1.1 بالمئة بحلول عام 2029 – بما يتماشى مع المتوسط من 2004 إلى 2023 – تشير الحسابات إلى أنه سيكون هناك حاجة إلى تدفق 1.5 مليون مهاجر في سن العمل.
ومع ذلك، فإن الهجرة وحدها غير كافية. إذ يجب على ألمانيا أيضاً، وفقاً للتقرير، بذل المزيد من الجهد لدمج العمال المهرة في سوق العمل، لا سيما من خلال توسيع نطاق الوصول إلى رعاية الأطفال وإصلاح السياسات الضريبية، التي تؤدي حالياً إلى معدلات ضريبية هامشية مرتفعة للغاية على الدخل للعمالة الثانية في الأسرة.
ولا تزال العقبات التنظيمية تشكل كابحاً كبيراً للنمو، وتنفق الشركات الألمانية حوالي 65 مليار يورو سنوياً على الامتثال والشهادات، في حين أن الانتظار لمدة 120 يوماً للحصول على ترخيص تجاري يتجاوز بكثير متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويوضح التقرير أن تبسيط التنظيم – خاصة في البنية التحتية والموافقات الصناعية – سيعزز القدرة التنافسية.
ويؤكد التقرير أنه على الرغم من هذه الرياح المعاكسة، تحتفظ ألمانيا بنقاط قوة استثنائية. تظل قاعدتها الصناعية رائدة عالمياً في التميز الهندسي، وهي ميزة حيوية في عصر التقنيات الخضراء والرقمية. وتتصدر ألمانيا الاقتصادات المتقدمة في براءات الاختراع للابتكارات الصديقة للبيئة. كما أنها تتصدر مؤشر الميزة النسبية لصندوق النقد الدولي للسلع الخضراء، متفوقة على الولايات المتحدة والصين، ولطالما أظهرت شبكتها من الشركات المتوسطة الحجم المتخصصة للغاية، والمعروفة باسم “ميتلستاند”، مرونة وابتكاراً.
ومع ذلك، انكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.2 بالمئة في عام 2024، مسجلاً تباطؤاً سنوياً للعام الثاني على التوالي، وفقاً لبيانات من مكتب الإحصاء الألماني. وكانت روث براند، رئيسة وكالة الإحصاء الألمانية، قد قالت إن “الضغوط الدورية والهيكلية” حالت دون تحقيق تطور اقتصادي أقوى، وتشمل هذه الضغوط زيادة المنافسة في الصناعات التصديرية الألمانية في الأسواق الرئيسية، وارتفاع تكاليف الطاقة، وارتفاع مستويات معدلات الفائدة، فضلاً عن التوقعات الاقتصادية غير المؤكدة”.
المصدر : وكالات