مثلت رؤية هلال شهر رمضان المعظم على مر الزمان طابعًا احتفاليًا فريدًا في تاريخ مصر خلال العصور الإسلامية، وكيف لا وثبوت هلال الشهر الفضيل يُعد الإيذان الشرعي لبدء الصيام، امتثالاً لقول انبي ـ عليه الصلاة والسلام: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”.
وكان رسول الله ـصلى الله عليه وسلمـ لا يأمر بصوم رمضان إلا بعد رؤية هلاله على التحقيق، أو بشهادة العدول، فصامه مرة بشهادة أعرابي، ومرة بشهادة ابن عمر، مكتفيًا بمجرد الرؤية.
أول مطالعة لرؤية هلال في مصر:
وقد اختلف المؤرخون حول أول من خرج لتحري هلال شهر رمضان من قُضاة مصر، فذكر الإمام جلال الدين السيوطي (911هـ/ 1505م) في كتابه “حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة”، إن أول من خرج لرؤية الهلال في مصر، القاضي غوث بن سليمان، الذي توفي في سنة ثمان وستين ومائة من الهجرة.
وقيل أن أول من خرج من الناس لرؤية هلال رمضان كان القاضي إبراهيم بن محمد، وذلك بمسجد يُدعى “محمود” أو “عبود” بالقرافة.
أما شيخ المؤرخين أبو عمر الكندي (ت355هـ/966م) فقد ذكر في كتابه “أخبار قٌضاة مصر” أن أول قاض ركب في الشهود لرؤية الهلال، هو القاضي أبوعبدالرحمن عبدالله بن لهيعة، الذي تولى قضاء مصر سنة (155هـ/ 721م)، وقال الكندي: “طلب الناس هلال شهر رمضان، وابن لهيعة على القضاء، فلم يره أحد، وأتى رجلان زعما أنهما قد رأياه، فبعث بهما والي مصر موسى بن علي بن رباح إلى ابن لهيعة، فسأل عن عدالتهما، فلم يُعرفا، واختلف الناس وشكوا في ذلك العام”.
من الجيزة إلى جبل المقطم:
وفي العام التالي، خرج القاضي عبدالله بن لهيعة في جماعة من أهل المسجد عُرفوا بالصلاح، فطلبوا الهلال، وكانوا يطلبونه بالجيزة، فتشكل بذلك أول موكب لمعاينة هلال رمضان، وبذلك كان ابن لهيعة هو الذي سن لمن جاء بعده من القضاة هذه السنة الحسنة، فكانوا يخرجون إلى جامع عبود بسفح جبل المقطم لرؤية الهلال في شهري رجب وشعبان؛ لإثبات هلال رمضان.
دكة القضاء:
وظل تحرى الهلال مُشتتًا بين الجيزة والمقطم، حتى أعدت “دكة للقضاة” بجبل المقطم ترتفع عن المساجد، يجلسون عليها لنظر الأهلة منها، بحسب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” لتقي الدين المقريزي (ت845هـ/1442م).
وما أن أهل العصر الفاطمي، حتى بُني مسجدًا مكان هذه الدكة، وفي هذا العهد أبطل الخلفاء رؤية القاضي لهلال رمضان، وجعلوا الشهور الرمضانية شهرا 29 يومًا، وشهرُا ثلاثين؛ فإذا وقع رمضان في أحدهما أمضوه كما هو، وأصبح ركوب الخليفة الفاطمي أول رمضان يقوم مقام رؤية الهلال، أما الخليفة الحاكم بأمر الله فأباح صوم رمضان بالرؤية لمن يريد، وذلك بحسب “قانون ديوان الرسائل” لابن الصيرفى (ت542هـ).
مواكب الخلفاء:
وكان الموكب الاحتفالي للخلفاء الفاطميين حدثًا رسميًا جماهيريًا مهيبًا، يخرج فيه الخليفة من باب الذهب بالقصر الفاطمي الزاهر، بثيابه الفخمة وعلى رأسه التاج مُتقلداً بالسيف وقضيب الملك بيده؛ ويلتف حوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المُطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجند تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال كذلك التجار وأرباب الحرف وغيرهم، ويسيرون جميعا في موكب واحد، يُعلنون قدوم الشهر المبارك.
مطالعة رؤيا الهلال عند ابن بطوطة:
وقد وصف لنا ابن بطوطة في كتابه “تحفة النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” في رحلته الأولى لمصر سنة 727هـ/ 1327م يوم “الركبة” لرؤية الهلال بمدينة أبيار بمحافظة الغربية حاليًا، فقال: “وقد لقيتُ بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وحضرت عنده مرة (يوم الركبة)، وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر، من اليوم التاسع والعشرين من شعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا تكامل الفقهاء ووجوه الناس، ركب القاضي ومن معه أجمعون، وتتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبُسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه، يترقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويُوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فعلهم كل سنة”.
أبقى المماليك على المظاهر الاحتفالية الكرنفالية برؤية الهلال، وكان يتم رصده تارة عند سفح المقطم بحضور القضاة الأربعة”المالكية، الحنفية، الشافعية، الحنبلية”، ومعهم المحتسب (المُشرف على الأسواق)، يتقدمهم حملة المشاعل والشموع والفوانيس ومجامر البخور، وتارة في المدرسة المنصورية للسلطان المنصور قلاوون، وذلك بحسب رواية ابن إياس الحنفي (931هـ/1525م) في موسوعته “بدائع الزهور في وقائع الدهور”.
وفي الوقت الراهن يخرج العلماء برئاسة مفتي الجمهورية لرؤية آخر شهر شعبان، ومتى ثبت ذلك أُضيئت المآذن، وتزينت الشوارع، وعم الخبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وهنأ الناس بعضهم بعضا.
المصدر : وكالات