تنطلق في جزيرة سينتوسا السنغافورية غداً الثلاثاء القمة التاريخية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، وسط ترقب عالمي كبير، لكونها تمثل علامة بارزة ومرحلة مفصلية جديدة ليست فقط في علاقة واشنطن وبيونج يانج ، لكن لكونها تمثل “فرصة لمرة واحدة” لإرساء السلام بين البلدين، وتدشين مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية في شبه الجزيرة الكورية.
وكان ترامب وكيم قد وصلا إلى سنغافورة قبل يومين من انعقاد قمتهما التاريخية التي لا تزال نتائجها غير مؤكدة، بعد عقود من انعدام الثقة والتوترات بين البلدين، وستكون الترسانة النووية الكورية الشمالية التي كلفت بيونج يانج سلسلة من العقوبات الدولية على مر السنوات، في أولويات أجندة الاجتماعات والنقاشات.
ولعل المشهد السياسي الاحتفالي للقاء لم يكن يمكن تصوره منذ أشهر عندما كانا لا يزالان في خضم تصعيد خطابهما السياسي، الأمر الذي يطرح أسئلة كبيرة حول نتائج القمة التي سيراقبها العالم بأسره عن كثب.
فبينما تطالب واشنطن بنزع الأسلحة النووية الكورية الشمالية “بشكل كامل ويمكن التحقق منه ولا عودة عنه”، تبرر بيونج يانج برنامجها النووي بضرورة مواجهة التهديد الأمريكي، وإذا كانت كوريا الشمالية قد تعهدت مرات عدة بجعل شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية، لكن هذه التعهدات حملت عدة تفسيرات ولم يكشف عن ما يمكن أن تكون عليه التنازلات.
وفي هذا السياق يرى مايكل أوهانلون، الخبير الاستراتيجي بمعهد “بروكينجز” بواشنطن، أن المسار الواقعي الوحيد لنتائج القمة، عملية تجرى “خطوة خطوة”، تتحقق حتما مع الوقت، وقال “لا يمكن تخيل أن رجلا “كيم”، كان نظامه منذ سنوات عديدة يؤكد أنه بحاجة إلى الأسلحة النووية لضمان أمنه، يتخلى عنها بضربة واحدة، حتى مقابل تعويضات اقتصادية كبيرة”.
ولا شك أن القمة التاريخية بين ترامب وكيم تمنح واشنطن وبيونج يانج فرصاً تاريخية لتحقيق تقدم في قضايا محددة، وفي نفس الوقت تفرض عليهما قيوداً سياسية وغير سياسية تحد من قدرتهما على التصرف بسلوك انفرادي بعد تلك القمة.
أولاً: الفرص التاريخية التي تمنحها القمة لواشنطن وبيونج يانج:
بالنسبة لأمريكا، لعل أول فرصة تمنحها القمة لواشنطن هي التخلص من التهديدات العسكرية المستمرة من جانب بيونج يانج والتهديد بضرب مصالحها الاستراتيجية في القارة الآسيوية، ولم يكن الإعلان المفاجئ من جانب كوريا الشمالية عن رغبتها في التخلي عن طموحاتها النووية هو الأول من نوعه، فقد تعهدت مسبقا بالتخلي عن برنامجها النووي في عام 2007 مقابل تخفيف العقوبات، ولكنها انسحبت لاحقا من هذا الاتفاق وطردت المفتشين في عام 2009، أما هذه المرة عام 2018 فقد حرصت واشنطن على الاستفادة من هذه الرغبة الكورية.
ثاني الفرص الممنوحة لواشنطن هي تقليص نفقاتها العسكرية خارج حدودها، لأن ترامب ـ على عكس رؤساء أمريكا السابقين ـ لا يريد تورط الجنود الأمريكيين فى حروب خارجية مجددا، ويرى أن إنفاق أمريكا مليارات على الحروب فى أفغانستان والعراق والصومال ونيكاراجوا وغيرها للإطاحة بـما سماه “نظم ديكتاتورية” كان خطيئة أمريكية لن تكررها إدارته.
كما أنه في حالة التوصل لاتفاق سلام نهائي بين واشنطن وبيونج يانج، فإن ذلك يمكن أن ينهي مهمة بعثة الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية والتي كانت موجودة منذ نهاية الحرب الكورية، مع تعهد كوريا الشمالية بعدم القيام باجتياح كوريا الجنوبية مرة أخرى فور رحيل القوات الأمريكية.
يدعم من ذلك التوجه، وجود مؤشرات بدء مرحلة جديدة بين الكوريتين، بعدما اجتمع “كيم جونج أون” مع نظيره الكوري الجنوبي “مون جاي إن” في 27 أبريل الماضي، وهي المرة الثالثة التي يلتقي فيها رئيسا البلدين، حيث سبق وأن التقيا خلال عامي 2000 و2007.
بيد أن الزيارة الأخير تعد هي الأولى من نوعها التي يقوم فيها رئيس من كوريا الشمالية بالدخول إلى الأراضي الكورية الجنوبية، حيث عبر “كيم” خط الحدود العسكرية الذي قسم شبه الجزيرة الكورية إلى شطرين بعد نهاية الحرب الكورية، كما قام الرئيسان بزرع شجرة صنوبر في القرية الحدودية مستخدمين تربة ومياهاً مشتركة من البلدين في إشارة رمزية إلى “السلام والازدهار”.
ثالث الفرص هي أي اتفاق مثمر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار رغبات ومصالح كوريا الجنوبية والصين واليابان، ضماناً لتعاون هذه الدول المهمة وذات التَّماس المباشر مع الأزمة في شبه الجزيرة الكورية. ذلك أن هذه البلدان الثلاثة مرتبطة ومعنية بالأوضاع الجيوسياسية للمنطقة أكثر من الولايات المتحدة نفسها. وعلى الرغم من أن لدى الولايات المتحدة وجوداً عسكرياً كبيراً في كل من كوريا الجنوبية واليابان، إلا أنها تستطيع سحب قواتها، كخيار أخير.
رابع الفرص التي تمنحها القمة للرئيس ترامب هي تسجيل الإدارة الأمريكية تحقيق اختراق في الأزمة مع بيونج يانج يُغطي على السجالات المثيرة بشأن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015، وبالتالي حاجة ترامب الملحة إلى تحقيق إنجازات خارجية لدعم إدارته التي تتعرض لهزات قوية وضغوط تسحب من شرعيته تدريجيا، خاصة فيما يتعلق بالتدخل الروسي فى الانتخابات الرئاسية المتهم بالتورط فيها أفراد من عائلته ومسئولون حاليون كانوا ضمن فريق حملته الرئاسية.
أما بالنسبة للفرص التي تمنحها القمة لكوريا الشمالية، تتمثل في أن الولايات المتحدة سوف تقدم ضمانات بعدم سعيها للإطاحة بنظام كيم جونج أون، أو تغييره، وتقديم مساعدات مالية وتكنولوجية من جانب اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة لدعم الاقتصاد الكوري الشمالي ومساعدة بيونج يانج فى التحول من الصناعات العسكرية إلى الصناعات المدنية، وتفكيك المفاعلات النووية.
وهو ما أشار إليه ترامب عندما قال إن اقتصاد كوريا الشمالية واعد، وإنه سيكون واحدا من أفضل الاقتصادات فى العالم، ومن المتصور أن واشنطن وبكين يعملان من أجل تطبيق “نموذج فيتنام” على كوريا الشمالية، بمعنى أن يظل الحزب الشيوعي حاكما، ويظل كيم جونج أون على رأس النظام وأن تطبق الدولة فى بيونج يانج اقتصاد السوق ونهج سياسات انفتاحية لجذب المستثمرين الأمريكان واليابانيين والكوريين الجنوبيين والصينيين.
ويبقى حلم الكوريين في الشمال بتنفيذ زعيمهم لوعوده بالنهضة، أو استمرار سنوات العزلة الدولية الطويلة المفروضة على بلادهم نتيجة تهديداتها لجيرانها، رهينة لما قد تسفر عنه القمة.
ثانياً : القيود والتحديات التي تفرضها القمة على واشنطن وبيونج يانج
لا شك أن قمة ترامب ـ كيم سوف تفرض قيوداً وتحديات مشتركة على الجانبين، أولها: عدم الرجوع للوراء مرة أخرى بشأن القضايا المثارة محور الاهتمام المشترك، لما يترتب على ذلك من تصاعد حملة من الانتقادات الإقليمية والدولية لكل من واشنطن وبيونج يانج، خاصة بعد التقدم المحرز في علاقات بيونج يانج ببقية دول الإقليم من الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ورغبة واشنطن في الخروج من عزلتها وضغوطها بعد صدامها مع الدول الأوروبية بسبب تراجع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن موافقته على البيان المشترك الصادر في نهاية قمة مجموعة الدول الصناعية السبع، متهما كندا بـ”عدم التحلي بالنزاهة”.
كما أن القمة تفرض على واشنطن وبيونج يانج ضرورة الالتزام بسياسة النفس الطويل، لأنه من المؤكد أن التخلص من الملف النووى لكوريا الشمالية لن يتم بين يوم وليلة أو صبيحة القمة، لكن سوف تكون هناك مفاوضات ومساومات طويلة حول الضمانات التى سوف تحصل عليها كوريا الشمالية مقابل ذلك.
فضلاً عن أن المطالب الكورية المماثلة من واشنطن قد تكون على استحياء وفي شكل مطالب جماعية لدول المنطقة لاعتبارات التنمية الاقتصادية واستدامة التعاون المشترك، من قبيل: إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى فى آسيا ورحيل القوات والقواعد الأمريكية ٥٤ ألف جندى فى اليابان، ونحو ٣٠ ألفا فى كوريا الجنوبية أو وقف المناورات العسكرية المشتركة مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية.
وهنا يشير المحللون إلى أن مثل هذه المطالب لن يكون من الممكن قبولها أو حتى التفاوض بشأنها من جانب إدارة ترامب، فالقوات والقواعد الأمريكية فى آسيا إستراتيجية طويلة الأمد لخدمة المصالح والأهداف الأمريكية فى القارة، ومن غير الممكن أن يتم التفاوض حولها أو طرحها للنقاش من جانب إدارة ترامب كورقة تفاوضية مع كوريا الشمالية، وعلى بيونج يانج أن تعي ذلك جيداَ.
يبقى القول إن النتائج التي تسفر عن قمة ترامب ـ كيم ستغير ملامح المشهد السياسي في شبه الجزيرة الكورية،وستكون قمة سنغافورة بداية مهمة على طريق طويل من المفاوضات، طالما أن الإدارة الأمريكية ستحقق هدفها المتمثل في التخلص من التهديدات الكورية الشمالية دون مقتل جندى واحد وإنفاق دولار فى حرب، وطالما أن كوريا الشمالية تحقق أهدافها المتمثلة في الدخول إلى معركة التنمية الاقتصادية بعد العقوبات التي أضرت كثيرا باقتصادها وشعبها، مع ضمان الحصول على مساعدات مالية وتكنولوجية من جانب اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة لدعم الاقتصاد الكورى الشمالى.
المصدر : أ ش أ