“قوة مصر واستقرارها يعطينا الأمل بقرب العودة”.. هكذا بدأ الحاج أحمد الإفرنجي “أبو بهاء” حديثه في ذكرى نكبة فلسطين الـ 68 التي يحييها الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات اليوم (الأحد) مثنيا على مصر ودورها التاريخي في دعم صمود الشعب الفلسطيني في كافة مراحل نضاله من أجل نيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة.
يقول “أبو بهاء” لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في الأراضي الفلسطينية: ” لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون مصر.. أيادي مصر بيضاء علينا نحن الفلسطينيين ولا ينكر عطاءها وفضلها إلا جاحد أو حاقد ، ودماء أشقائنا المصريين الزكية روت أرض فلسطين والروابط بيننا عصية على دعاوى الفرقة والشقاق”.
وأضاف الشيخ ذو العقد السبعيني الذي تلقى تعليمه الجامعي في مصر في الخمسينيات من القرن الماضي: “الله أنقذ مصر من المصير الذي وقع في دول عربية أخرى كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، فمصر كانت مستهدفة مائة في المائة وأكبر ناس غادرين هم الأمريكان لأنهم يعملون على هدم مصر والأمة العربية”.
وتابع:” بالطبع كلما تقرب الوحدة العربية يكون هناك أمل بالعودة ، وإذا بعدت يبعد الأمل.. إسرائيل جرى زرعها لتفتيت المنطقة العربية وتطبيق اتفاقية “سايكس- بيكو” وأهداف الصهيونية العالمية ، وهذا ما نعانيه واقعا اليوم في كثير من البلدان العربية، حيث نجحت أمريكا في تفتيت الأمة العربية عبر سياسة “الفوضى الخلاقة” التي سميت فيما بعد باسم جذاب هو “الربيع العربي” والذي لم يكن ربيعا بقدر ما كان خريفا تساقطت فيه كل الأوراق”.
وبالرغم من تجاوزه الـ77 من العمر ، فإن “أبو بهاء” الإفرنجي يحتفظ بذاكرة حديدية تحوي كل صغيرة وكبيرة عن مسقط رأسه “وادي البها” الذي عاش به أجمل سني طفولته حتى تم ترحيله وعائلته مع آلاف اللاجئين الفلسطينيين قسرا من أرضهم إبان نكبة فلسطين في مثل هذه الأيام عام 1948.
يقول “أبو بهاء” :”ولدت في 14 مايو 1939 في أرض البها التي تقع في شمال غرب النقب ما بين “وادي البها” غربا ووادي الشريعة شرقا وتبعد الى الشرق من مدينة غزة نحو 13 كيلومترا وللغرب من مدينة بئر السبع نحو 33 كيلومترا، في هذه الأرض كانت طفولتي وصباي ، منها أكلنا ، وفيها لعبنا ، زرعنا ، حصدنا، جنينا حبوبا وكروما، رعينا في ربوع البها أنعاما واغناما ، إبلا وابقارا ، ومن عطائها أكلنا وشربنا وبنينا بيوتنا وكان لنا فيها جمال حين نسرح وحين نرجع”.
وأضاف :”والدي الشيخ حسن جمعة الفرنجي كان شيخا لعشيرة “الفرنجي-حكوك الحمامده” من قبيلة التياها احدى قبائل النقب ، وكان صاحب شركة مقاولات تعمل في غزة ومصر إبان الإدارة المصرية لقطاع غزة ، وكانت أملاك الأسرة تقع ما بين وادي البها ووادي الشريعة وكذلك في غزة “.
واستطرد :”بواكير تعلمي كان في مدرسة البها وهي عبارة عن غرفة واحدة يقوم بالتعليم فيها على نفقة العشيرة المعلم المصري الجنسية الشيخ مرسي أحمد حسان من سكان الصالحية بالشرقية في مصر وكان يعلمنا القراءة والقرآن والحساب.. ثم أرسلني والدي الى مدرسة بئر السبع الأميرية عام 1947 وكان فيها قسم داخلي مخصص لأبناء البادية من سكان النقب ونظامه صارم في الدراسة والمراجعة والأكل والنوم” .
ويسرد “ابو بهاء” كشاهد عيان على النكبة حكاية عائلته وكيف هجرت قسرا قائلا: “خلال عام 1948، زادت وتيرة الهجمات اليهودية على القرى والبلدات والمدن الفلسطينية وانتشرت أخبار الجرائم البشعة والمذابح كالنار في الهشيم في كل فلسطين.. وخلال مقاومة العصابات الصهيونية ، استشهد عمي مع ثلاثة من المناضلين في إحدى المعارك شرق مدينة غزة ، كما استشهد أربعة آخرون من العائلة وفقد ابن عمتي أحد ذراعيه “.
وتابع:” ذهب الوالد للإسكندرية في مصر لشراء السلاح من الصحراء الغربية له ولأبناء النقب ، وهناك تعرف على الحاج المصري حسني المنياوي الذي ساعده في الحصول على شحنة السلاح وعاد معه إلى فلسطين مقاتلا، وبالطبع كان السلاح متواضعا مقارنة بالأسلحة الحديثة لدى العدو”.
وأردف:” خلال حرب 1948 ، وقعت احتكاكات واشتباكات متقطعة بيننا وبين قطعان اليهود في المستوطنات المجاورة لمنطقتنا ، وكنا نضع متاريس الرمل على أسطح البيوت ونحفر حولها الخنادق تحسبا لأى عدوان، وفي احد الاشتباكات شرق غزة على طريق السبع أصيب المناضل المنياوي في عينه ووالدي في يده”.
وأضاف: “استمر الوالد في الجهاد ضد اليهود هو وأبناء عشيرته والعشائر الأخرى، وفي عصر أحد الأيام جاءت مجموعة من الدبابات والمجنزرات الإسرائيلية إلى منازلنا وفتشوا البيت ونهبوا ما فيه وهددونا بالقتل إذا جاؤوا في الغد ووجدونا ، فقرر الوالد الرحيل الى غزة في أواخر صيف 1948”.
ويحيي الفلسطينيون في 15 مايو من كل عام ذكرى النكبة والمأساة الإنسانية المتعلقة بتهجير نحو 800 ألف فلسطيني قسرا خارج ديارهم إلى بقاع مختلفة من أنحاء العالم عام 1948 بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل على 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية.
وعلى أثر النكبة، مازال اكثر من نصف الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 12 مليون إنسان يعيشون خارج بلادهم في مخيمات الشتات واللجوء بالدول العربية المجاورة لفلسطين ، فيما انتشر جزء منهم في أصقاع الأرض ودول شتي.
ويستذكر “أبو بهاء” الإفرنجي مسار حياته كلاجئ طرد من بيته عنوة ، وكأن الحدث وقع بالأمس دون أن ينسيه الواقع المرير أو كبر سنه شيئا من هذه الأحداث الممتدة على مدار نحو سبعة عقود قائلا:” في غزة أكملت دراستي الابتدائية والإعدادية وحصلت على الثانوية العامة، ثم غادرت لمصر عام 1957 للالتحاق بجامعة الإسكندرية ،حيث تخرجت في كلية الآداب قسم الجغرافيا عام 1961 ، فقد كانت مصر ملاذنا لاستكمال التعليم الجامعي لأنه لم تكن هناك جامعات في غزة”.
ويصمت برهة من الوقت قبل أن يكمل حديث الذكريات الجميلة في مصر قائلا:” تحت الإدارة المصرية لغزة كانت كل مراحل التعليم مجانية ، وكانت البعثات التعليمية والطبية تأتي إلى القطاع لتعليم وعلاج أبناء الشعب الفلسطيني على نفقة الدولة المصرية ، وخلال الدراسة الجامعية كان جميع الطلبة الفلسطينيين معفيين من الرسوم ، كما أن الطلبة المتفوقين كانوا يتلقون منحا مالية من الحكومة المصرية”.
ويتذكر أيضا أن مصر سيرت في الخمسينيات من القرن الماضي “قطار الرحمة” الذي كان يجوب الريف المصري لجمع الحبوب والمساعدات الغذائية من الشعب المصري لتقديمها إلى أشقائهم في قطاع غزة الذي كان لا يتجاوز عدد سكانه 350 ألف نسمة حتى عام 1960.
وأضاف:” عدت إلى غزة بعد التخرج في الجامعة ، وعينت مدرسا ، ثم تعاقدت للعمل مدرسا في قطر في صيف عام 1964، وكانت آخر زيارة لي للقطاع عام 1966 لأنه احتل في يونيو عام 1967 ولم يسمح الاحتلال للفلسطينيين في الخارج بالعودة”.
ويتذكر “أبو بهاء” بفخر انسحاب اليهود من غزة عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، وتعيين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الفريق محمد حسن عبداللطيف حاكما إداريا للقطاع عام 1957 ، والذي كانت جماهير غزة في انتظاره بالورود والهتافات وحملوا سيارته على أكتافهم احتفاء بعودة الإدارة المصرية وتأكيدا لحبهم لمصر خصوصا أنه كانت هناك مؤامرة آنذاك لتدويل القطاع .
وخضع قطاع غزة بين 1948 و1956 للإدارة المصرية، ثم احتلته إسرائيل لمدة 5 أشهر إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، وفي مارس 1957 انسحبت، وعاد للإدارة المصرية إلى أن احتلته إسرائيل مجددا بعد حرب 1967.
وبتنهيدة تنم عن وجع يمتد لعقود، يقول “أبو بهاء” الإفرنجي: “بعد التوقيع على اتفاق “غزة-أريحا” عام 1993 ، عدت إلى القطاع بعد غياب 27 عاما ، وذهبت إلى زيارة “وادي البها” مسقط الرأس ومنبع الخير ومثوى الأجداد بعد غيبة 45 عاما ، فعشت لحظات مع الماضي وكأني بها بالأمس سارعت إلى تسجيلها في كتاب سميته “العودة إلى الجذور” لعل الأجيال القادمة تعرف هذا التاريخ الناصع عندما يحين وقت العودة لأرض الآباء والأجداد.
ويؤكد “أبو بهاء” أن مقولة “الكبار يموتون والصغار ينسون” التي أطلقها كبار القادة الإسرائيليين خلال تهجير الفلسطينيين من أرضهم “سقطت إلى الأبد” وأن حلم العودة موجود لدى كل فلسطيني مهما كانت المغريات وطال الزمن.
وقال :”الأمل موجود في العودة ولا تفريط في هذا الحق لأن فيه وعدا ربانيا بذلك في القرآن الكريم “وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا”… الشباب الفلسطيني يهاجر للخارج ويحصل على الجنسية وجواز سفر اجنبي سواء أمريكي أو كندي أو من دول الاتحاد الأوروبي ، لكنه يعود إلى فلسطين في أول فرصة وعندما يفكر الأب في تزويج ابنه أو بنته يأتى إلى هنا” .
ويرفض “أبو بهاء” الخيارات المطروحة لحق العودة كالتعويض أو التوطين ، مؤكدا أن حق العودة مقدس ولا يسقط بالتقادم وغير قابل للتنازل أو المساومة.
ويقول :”حتى الأمم المتحدة تعترف بحق العودة لكن الذين صنعوا إسرائيل يؤخرون تطبيق هذا الحق ويتلاعبون به وهم كانوا في البداية البريطانيين ثم سلموا هذه الصناعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية”.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط