أصاب فيروس كورونا (كوفيد 19) العلاقات الصينية الأوروبية، بأضرار جسيمة ربما تعصف بما تم بناؤه من تفاهم ودي، حرص الطرفان على ترسيخه منذ سنوات مضت، في ظل حالة من السيولة الدولية والاتهامات التي تطارد بكين بأنها لم تلتزم الشفافية عندما نشأ الفيروس في مدينة ووهان الصينية، والمطالبات الأمريكية والألمانية بتعويضات من الصين جراء تداعيات جائحة كورونا.
ورغم أن موقف الاتحاد الأوروبي لم يكن حادا مثل الموقف الأمريكي، لكن جاءت تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان در لاين، المطالبة بتحقيق دولي حول منشأ كورونا، لتمثل هزة عنيفة في جدار العلاقات بين بكين وبروكسل، وتشكل خطوة دبلوماسية متقدمة في الموقف الأوروبي الموحد، وهو الأمر الذي يؤثر سلبا على مستقبل العلاقات الصينية الأوروبية ويضربها في مقتل.
وكانت الحكومة الصينية قد ردت بغضب على الاتهامات والشكوك حول إدارتها لأزمة الوباء، وانتقدت بشدة غير معهودة في خطابها الدبلوماسي الهاديء التصريحات التي صدرت في الأيام الأخيرة من واشنطن وباريس ولندن، ورفعت منسوب التوتر في الأجواء الدولية الضبابية.
**الصين تعزز علاقاتها الأوروبية
وكانت العلاقات بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي قد شهدت منذ وصول ترامب للبيت الأبيض، تقاربا قويا وتفاهما لطبيعة المرحلة الجديدة في العلاقات الدولية ذات الطابع المتعدد دبلوماسيا وتجاريا، إذ جاء ردا على الهجوم الذي شنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاتحاد الأوروبي كمؤسسة أوروبية ومن بعدها على العديد من الدول الأوروبية تباعا.
ولا شك أن هذا التفاهم بين الصين والاتحاد الأوروبي، كان مهما لاستقرار عمل المؤسسات والاتفاقيات الدولية، فقد لعب دورا أساسيا في منع انهيار اتفاقات دولية مهمة مثل “اتفاقية باريس لمكافحة تغيّر المناخ”، وفي الحفاظ على دور المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، كإطار للتعايش الدولي.
وكانت ألمانيا، الشريك التجاري الأول للصين، هي التي حرصت على إشاعة مناخ الثقة بين بكين والعواصم الأوروبية في السنوات الماضية، لكن منذ نهاية العام الماضي، بدأت تتزعزع هذه الثقة إلى أن وصلت مطلع أبريل المنصرم، إلى سلسلة من الصدامات الدبلوماسية، التي راحت تزداد حدتها مع مرور الوقت، فيما بدت الصين تخرج عن خطابها الدبلوماسي الناعم، وترد بعنف على التلميحات الأوروبية التي توجه إليها، وتتهم من يدلي بها بالسير في ركاب واشنطن لمحاولة تحميلها مسؤولية الجائحة.
فقد دأبت السياسية الأمريكية منذ اندلاع الجائحة على تحميل الصين المسئولية، مع إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تسمية كورونا بالفيروس الصيني، واستنكار الحكومة الصينية التصريحات الأمريكية واصفة إياها بالمبالغة في رد الفعل على التفشي وتأجيج الذعر.
ومؤخرا انتقل الصراع الكلامي بين واشنطن وبكين إلى ساحة مجلس الأمن، حيث عرقلت الولايات المتحدة والصين، مشروع قرار فرنسي – تونسي في مجلس الأمن الدولي، يدعو إلى تعزيز التنسيق بمواجهة وباء “كوفيد – 19”.
ورغم ركوب بعض الدول الأوروبية موجة الانتقادات التي تبنتها واشنطن للسياسة الصينية، إلا أن بكين تسعى لتغيير هذه التصورات من خلال ما وصفه المراقبون بـ “دبلوماسية الكمامات”، وهي مزيج من سياسة القوة الناعمة والرسائل السياسية والمساعدات المصممة لتصوير العملاق الصيني كحليف قوي.
فقد عملت الصين منذ سنوات على زيادة نفوذها السياسي والاقتصادي في جنوب شرق أوروبا، من خلال مشاريع (الحزام والطريق) الاستثمارية العالمية، ووجدت حملة العلاقات العامة وتلميع الصورة بعد تفشي المرض، أرضا خصبة في دول مثل صربيا والمجر، والتي يقيم قادتها علاقات وثيقة مع بكين أو موسكو.
وشكلت كل من صربيا والمجر بوابات مهمة للصين إلى أوروبا من خلال مشاريع البنية التحتية، حيث تبلغ استثمارات الصين في صربيا نحو 6 مليارات دولار في شكل قروض لبناء الطرق السريعة والسكك الحديدية ومحطات الطاقة، بالإضافة إلى عقود لإدخال شبكة الجيل الخامس، ما دفع المسؤولين الأمريكيين إلى التحذير من دبلوماسية “فخ الديون” الصينية.
وفي مقابل هذه التحركات، كتب جوزيب بوريل، مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، قائلا: “يجب أن ندرك أن هناك مكونا جيوسياسيا، يشمل الصراع على النفوذ، من خلال الغزل وسياسة الكرم، نحن مسلحون بالحقائق، نحن بحاجة للدفاع عن أوروبا ضد منتقديها”.
ورفض مسؤولون صينيون المزاعم التي تقول إن بكين تسعى لتحقيق مكاسب سياسية من خلال تقديم مساعدات طبية لدول أخرى، قائلين: إن هذه المزاعم ناتجة عن تصورات خاطئة عميقة الجذور لأهداف الصين في الغرب، وبينما كانت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 مشغولة بمحاربة الفيروس وسط نقص في المعدات وسبل الوقاية، تم الإشادة بشحنات الصين حتى عندما تم دفع ثمنها.
وبالرغم من تقليل مسؤولين من دولة صربيا “الدولة المرشحة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي”، من المساعدات التي قدمتها بروكسل في شكل منح وقروض، والإشادة بمساعدات وتبرعات ومشتريات نقدية صينية، فإن اقتراح رئيس الوزراء الصربي بإقامة نصب تذكاري لتكريم صداقة صربيا مع الصين خلال تفشي الفيروس، واجه ردود فعل سلبية من بعض الصرب الموالين للغرب.
من جانبها، أشادت الحكومة في المجر بالمساعدات من الصين والدول الآسيوية الأخرى، وشكرتها على إمدادها بالكمامات وأجهزة التنفس وغيرها من المعدات اللازمة لمكافحة هذا الوباء، وقللت من أهمية المساعدات التي قدمها أعضاء الاتحاد الأوروبي.
**موسكو على الخط
فيما يلوح في الأفق أزمة سياسية حادة بين الصين والاتحاد الأوروبي، دخلت روسيا على الخط في محاولة للاستفادة وتعزيز العلاقات المستقبلية مع الصين، في ظل الدعوات الكثيرة لتعزيز التضامن الدولي في مواجهة الوباء، والاتجاه نحو عقد قمة نادرة لخماسي مجلس الأمن لبحث هدنة عالمية.
الأمر اللافت هنا هو غياب الملف الخلافي الرئيسي بين موسكو والغرب عن جدول الأعمال، إذ لم تبرز تداعيات للوضع الحالي مع الوباء على العلاقة الروسية – الأوكرانية. وباستثناء استمرار الاتصالات الرباعية في إطار “مجموعة مينسك” (روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا) بدا أن موسكو ليست راغبة في تنشيط الحديث عن هذا الملف، بما في ذلك تأكيد الكرملين على رفض طرح الموضوع الأوكراني خلال القمة الخماسية المنتظرة.
ويرى مراقبون أنه في الوقت الذي تتجه فيه العلاقات بين بكين وبروكسل نحو التأزم، تتجه العلاقات بين بكين وموسكو نحو التعزيز، من خلال تنشيط المساعدات المتبادلة، وتبادل الخبرات الذي شهد نشاطا متسارعا، وربما ملامح جديدة في العلاقات الثنائية، والدولية لاحقا، تتمحور حول تسريع تعزيز التقارب في ملفات ثنائية وإزاء بلورة الرؤية المشتركة للملفات الإقليمية والدولية، التي تبدو مواقف الطرفين حيالها قريبة بالأساس.
ووفقاً لتوقعات الخبراء، فإن اعتماد اقتصاد روسيا وحاجات التطور التكنولوجي، سوف يعتمد بشكل متزايد على الصين، مما سيؤثر على مجالات التعاون الأخرى.
يشار إلى أن التقارب الروسي – الصيني ليس مرتبطا فقط بالأزمات، رغم أنه في ظروف الأزمات تزداد حاجة البلدين إلى توسيع أنماط التعاون وتعميقه. وخلال السنوات القليلة الماضية، كان اعتماد الاقتصاد الروسي على الصينيين ينمو باطراد، وقام البنك المركزي الروسي بزيادة حصة اليوان الصيني في احتياطات النقد الأجنبي، وبسبب الوباء، ستتسارع هذه العملية، وسيتعزز اعتماد موسكو على واردات التكنولوجيا الصينية.
يبقى القول إن من أهم تداعيات وباء كورونا، أنه سوف يسرع من وتيرة عملية إعادة الهيكلة المستمرة للعلاقات الدولية المستجدة في اتجاه النظام الأمريكي الصيني الذي يبلور احتمالات ثنائية قطبية، مع وجود قوى أخرى تخرج من الأزمة ضعيفة عن اللاعبين الآخرين في السياسة العالمية، ومنها موسكو وبروكسل.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)