كشف تعثر مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عُقد اليومين الماضيين فى منتجع سوتشي غرب روسيا، على خلفية عدم مشاركة بعض فصائل المعارضة، وبوادر خلافات بين موسكو وأنقرة والمبعوث الدولى ستيفان دى ميستورا، عن عودة صراع النفوذ مجدداً بين القوى الإقليمية والدولية واستمرار لعبة خلط الأوراق حول مستقبل التسوية السياسية في سوريا.
فقد تجدد صراع النفوذ على سوريا عقب الانسحاب الجزئي الروسي عسكرياً من سوريا، مع احتفاظها بوجودها العسكري في حميميم وطرطوس، وإعلان الولايات المتحدة عودتها بقوة للملف السوري من خلال عزمها تشكيل قوة أمنية على الحدود السورية من الأكراد باسم “قوات سوريا الديمقراطية” لتؤكد رغبتها، أي واشنطن، في مزاحمة الطرف الروسي في سوريا، أو على الأقل قيامها بوضع العصا في العجلة الروسية لإجبار موسكو على العودة عن المسار الذي خططته للحل السياسي.
هذا الإعلان الأمريكي أثار شكوك وحفيظة القوى المعنية بالملف السوري وتحديداً روسيا وتركيا وإيران، وفشلت المحاولات الأمريكية في إقناع هذه القوى بأهمية التدخل الأمريكي في الملف السوري وبهذا الشكل.
وبدت كل دولة من الدول المعنية بالملف السوري تضع من الشروط وتمارس من السياسات ما يحقق مصالحها ويلبي طموحاتها الاستراتيجية في المنطقة، وباتت الأراضي السورية ساحة لتقاسم النفوذ من جديد، ولذا بات مستقبل التسوية السياسية للأزمة السورية المندلعة منذ سبع سنوات، رهن مصالح ونفوذ القوى الإقليمية والدولية، فإذا كانت روسيا ترى في وجود الأسد شرطا للتسوية السياسية، فإن واشنطن ترى أن رحيل الأسد أساس التسوية.
تنازع وتضارب المصالح
إن التباين والتنازع الواضح في المواقف والمصالح الإقليمية والدولية بشأن التسوية السياسية في سوريا بات هو المتحكم في المؤتمرات التي تُعقد بشأن سوريا في جنيف والأستانة وسوتشي وفيينا، ويمكن إبراز تلك المتناقضات على النحو التالي:
أولاً: موسكو تمضي في تحركاتها لتفعيل حل سياسي للأزمة السورية، يكون جوهره الإبقاء على الأسد كجزء من الحل، وعليه بدت الأستانة وسوتشي بديلا لجنيف وفيينا وأمسكت موسكو بخيوط اللعبة الدبلوماسية للحل السياسي. وتزامن مع ذلك إحراز مزيد من التقدم للقوات السورية الحكومية في إدلب التي جرى هندسة تجميع الجماعات المسلحة المعارضة فيها.
كما وقع نائب رئيس الوزراء الروسي اتفاقات اقتصادية شاملة مع سوريا تُمكن موسكو من وضع يدها على النفط والغاز وسائر الثروات وخطوط النقل، الأمر الذي يعني أن موسكو التي نجحت في الميدان بتثبيت نظام الأسد، وتوجيه أقسى الضربات إلى المعارضة ما مكّنها من فرض جهات عليها وتعديل أجندتها، رسمت حلاً في “سوتشي” على قياس مصالحها.
هذا التحرك الروسي المنفرد أثار الغضب الأمريكي، وانتقدت واشنطن موقف موسكو من الأسد علنا، ودعتها إلى الدخول بشكل جدي في مفاوضات جنيف، بينما هي تمضي في مسار آخر مختلف، بغية تحقيق مكاسب سياسية في الداخل الروسي حيث معركة الانتخابات الرئاسية الجديدة لبوتين، في حين اتهم لافروف وزير الخارجية الروسي، الولايات المتحدة بأنها ساعدت في انتقال بعض عناصر داعش من العراق إلى سوريا، واعتبر تشكيل قوة أمنية على الحدود السورية بمثابة تشكيل سلطة بديلة في سوريا مما يعد مساساً بسيادتها كدولة.
ثانياً: الولايات المتحدة الأمريكية: قررت تغيير موقفها من الأزمة السورية والعودة مجدداً إلى ممارسة صراع النفوذ مع القوى المناوئة، ورفض معادلة توازن الأمر الواقع التي فرضتها روسيا وإيران فى سوريا، مبررة هذا الرفض بتنفيذ نصوص استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة.
وتأسيساً على الموقف الأمريكي الجديد، جاء إعلان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عزمه على تأسيس “قوة أمن حدودية” قوامها 30 ألف جندي، يجرى تشكيلها من “قوات سوريا الديمقراطية” (الكردية) للانتشار على الحدود الشمالية مع تركيا والحدود الشرقية الجنوبية مع العراق شرقي نهر الفرات.
ومن هنا باتت واشنطن تسعى ـ ليس فقط ـ إلى حصولها على نصيب من الكعكة السورية عبر ترسيمها مناطق النفوذ التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” وعزلها عن باقي مناطق نفوذ النظام السوري التي تحظى بالدعم الروسي والإيراني ، إنما تسعى أيضاً إلى إنهاء احتكار روسيا لقرار مستقبل سوريا، والعودة مجدداً لممارسة نفوذها العسكري والسياسي من خلال القواعد العسكرية الموجودة فى هذه المنطقة.
ثالثاً: تركيا: على خلفية فشل البنتاجون الأمريكي في تبديد المخاوف التركية من تشكيلها “قوات سوريا الديمقراطية” (الكردية)، وتبرير واشنطن بأن الأمر لا يتعدى تدريب حلفاء الولايات المتحدة من الأكراد في شمال سوريا على مسائل الأمن الداخلي، نفذت تركيا تهديداتها بالتدخل عسكريا للسيطرة على منطقة “عفرين” السورية، وبدأ الجيش التركي فى العشرين من يناير الحالي عملياته العسكرية التي أطلق عليها “غصن الزيتون” ضد مقاتلي “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي المتمركز فى المدينة الواقعة فى الشمال الغربي من سوريا.
وقد جاء التدخل التركي خشية إقامة الأكراد حكماً ذاتياً على حدودها في مناطق سيطرتهم في شمال وشمال شرقي سوريا على غرار كردستان العراق، لذا أعلن الرئيس التركى رجب أردوغان أن عملية “غصن الزيتون” تستهدف تطهير عفرين ومنبج من وحدات حماية الشعب الكردية إذا لم يستسلم عناصرها للقوات التركية خلال أسبوع واحد.
لكن هذا التدخل التركي جاء مرتبطاً بتفاهمات مع كل من روسيا والنظام السورى للدخول إلى عفرين، من أجل إفساد الخطة الأمريكية، المعروفة باسم “خطة سلام من أجل سوريا”، تدعو لتشجيع قيام إدارات محلية وحكم ذاتي تشكل اتحاداً كونفدرالياً يمهد لاتفاق سياسي يطلق المرحلة الانتقالية، تحت شعار “لا دور للأسد” في مستقبل سوريا.
رابعاً: أما إيران فإن علاقاتها في حالة توتر دائم مع واشنطن بسبب الملف النووي ورغبة الأخيرة في تعديله أو الانسحاب منه عقب انتهاء فترة التصديق الأمريكي الأخيرة عليه.
يزيد من توتر مشهد العلاقات بين الدولتين، أن طهران تعتزم تنفيذ طريق برى يربط الأراضى الإيرانية بشاطئ البحر المتوسط عبر الأراضى العراقية والسورية، ولكن منطقة النفوذ الأمريكي “الكردية” في سوريا تحرم طهران من ذلك، لأنها تقطع التواصل الإيرانى البرى المأمول بين الأراضى العراقية والأراضى السورية.
يبقى القول أن الحسابات الاستراتيجية الجديدة لكل من أمريكا وروسيا وتركيا وإيران، وصراع النفوذ المكتوم بينهم، بشأن تسوية الأزمة السورية، يؤكد أن ثمة توجهاً آخر نحو خلق مسارات جديدة للصراع فى سوريا، وبالتالي خلق مطالبات جديدة تبدد فرص الحل، بما يؤخر عملية التسوية السياسية في البلاد ، ونأمل أن تكون التسوية قريباً للمحافظة على وحدة واستقرار الأراضي السورية.
المصدر:أ ش أ