كشفت القمة الهندية – الروسية التي عُقدت في نيودلهي خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الهند يومي 4 و5 أكتوبر الحالى، والتي شهدت توقيع أكثر من 20 اتفاقية لتعزيز التعاون بين الدولتين في مختلف المجالات، عن أن أحد أهم الدوافع الهندية للتقارب مع روسيا يتمثل في التصدي لمحاولات إعاقة حرية الملاحة أو الهيمنة على الممرات البحرية الاستراتيجية، من خلال اتباع الهند سياسة التوجه شرقاً عبر عدد من المبادرات الأمنية والاستراتيجية مع دول القارة الآسيوية، والقيام بدور حلقة الوصل بين الأقاليم المطلة على المحيطين الهندي والهادىء.
وتؤكد العديد من الدراسات الاستراتيجية أن محاولات السيطرة والتحكم في الموانىء والممرات والمضايق البحرية باتت تشكل أحد أهم النقاط المحورية في تنفيذ السياسة الخارجية والعسكرية بين دول العالم، وأشار الأميرال الأمريكي ألفريد ماهان إلى أن القوة البحرية هي في صلب ودعامة القوة الاستراتيجية العالمية، ومن يسيطر على البحار يسيطر على التجارة، ومن يسيطر على التجارة يكون الأقوى.
لقد تنبهت الدول الكبرى إلى أهمية الممرات البحرية، التى تتحكم في نقل السلع الهامة من مواقع الإنتاج إلى مواقع البيع، كما أنها تقصر المسافات بين الدول في التجارة والتعاون العسكرى، وهى في المجمل أداة للتحكم والتغيير والتأثير على مناطق النفوذ، في الدول الواقعة على الممرات الطبيعية، لذا كان تواجد الدول الكبرى في هذه الممرات، ضمن مخطط الصراع على النفوذ.
في هذا السياق أصبحت منطقة جنوب آسيا وخاصة المناطق والدول المتصلة بالمحيطات والممرات البحرية، مصدراً للتنافس الشديد بين دولها، ومجالاً من مجالات بسط السيطرة والنفوذ والصراع.
وضمن حالة الصراع الدولى لإنشاء الممرات الاصطناعية، نجحت أول سفن نقل الحاويات التابعة، لشركة ميرسك الدنماركية، في اجتياز الممر الشمالى، ودعا الرئيس بوتين شركاء روسيا إلى استخدام هذا الممر، سعياً منه لتحويل القطب الشمالى إلى ميدان للصراع التجارى، بعدما كان بمثابة رقعة الشطرنج، بين القوات البحرية الروسية والأمريكية إبان الحرب الباردة.
فقد وصلت السفينة إلى سان بطرسبورج، بعدما غادرت مدينة فلاديفوستوك الساحلية الروسية، مستغلة التغير المناخى وذوبان الجليد بعض فصول السنة ضمن رحلة تجريبية، عبر هذا الممر الذى يربط آسيا بأوروبا، ويعزز الآمال كونه أقصر وأقل تكلفة، حيث تستغرق الرحلة بين بيونج يانج وهامبورج 46 يوما عبر طريق رأس الرجاء الصالح، وتستغرق 23 يوما فقط عبر مسار القطب الشمالى، وحثت الحكومة الصينية شركات الملاحة على استخدام “الممر الشمالي الغربي” لتقليل الزمن الذي تستغرقه الرحلات البحرية بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
من ناحيتها، تعتبر الهند من أكثر القوى الدولية حرصاً على تدعيم نفوذها البحري لمواجهة واحتواء التمدد الصيني، إذ تنظر الهند إلى (مشروع الحزام والطريق) الذي تقوم بتنفيذه الصين باعتباره محاولة لتطويق حدودها بريا وبحريا عبر تأسيس شبكة تحالفات في جنوب آسيا.
ووفقاً للمحللين يرى رافيندرا دايشابيريا المحاضر بكلية لندن للاقتصاد أن تركيز الصين على تطوير الموانئ البحرية في جنوب آسيا يستهدف بالأساس تعزيز الحضور العسكري الصيني في المحيط الهندي، حيث تقوم الصين بتطوير ميناء “جوادار” في باكستان، وفي أغسطس 2017، حصلت الشركة القابضة للموانئ التجارية الصينية المحدودة، وهي ذراع متفرعة عن الحكومة الصينية، على 70% من أسهم ميناء “هامبانتوتا” في سيريلانكا مقابل 1.12 مليار دولار لمدة 99 عاما.
وفي تقرير نشرته مؤسسة “أوبزيرفر” للأبحاث في 4 أكتوبر 2018 بعنوان “قمة مودي – بوتين: ما القضايا على أجندة الترابط الدفاعي بين روسيا والهند؟” والتي رصدته دراسة أكاديمية صادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبو ظبي، تم التأكيد على أن الشراكة الاستراتيجية الوثيقة بين الصين وروسيا والتي وصلت مراحل متقدمة خلال العامين الماضيين، باتت تثير قلقا لدى نيودلهي من انعكاساتها على الأمن الإقليمي في جنوب آسيا، خاصة في ظل تزايد واردات الأسلحة المتقدمة من جانب موسكو إلى بكين وتأثيراتها على توازن القوى الإقليمي، والتطور الملحوظ في القدرات البحرية الصينية، واتجاه الصين لتعزيز انتشارها العسكري في المحيط الهندي.
لكن الصين هى الأخرى دخلت على خط الصراع على الممرات البحرية، لمنافسة قناة بنما التى تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلنت الصين عن إنشاء قناة نيكارجوا، والتى تربط المحيط الأطلسى بالهادىء، مما سيجعل بكين تتحكم في ممر مائى على مشارف الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى مشروع طريق الحرير العملاق، الذى يمتلك أطول خط سكك حديد، عابر للقارات فى العالم والذى يمتد من مدن الساحل الشرقى للصين حتى مدريد، في رحلة تستغرق 17 يوما بدلا من 6 أسابيع بالبحر، وتعتبر الصين أن مشروعها استثمارى عملاق.
واستمراراً لصراع السيطرة والنفوذ على الممرات البحرية، بدأت القوات البحرية اليابانية والصينية والروسية تبحث عن موطئ قدم لها في المحيط الهادىء والبحر المتوسط، وعلى طول الساحل الأفريقي، وذلك إدراكا منها بأن القوة الاقتصادية والقوة البحرية متلازمتان لحماية مصالحها الحيوية.
وبدأت هذه القوى تدريجياً بالتحكم في عدة نقاط عبور في جنوب شرق آسيا، وتسعى روسيا، بالأساس، إلى فك أي محاولة لعزلها شمالاً وجنوباً، وذلك بضمان الوصول إلى البحار الدافئة، وتأكيد حضورها في المحيط الهادىء، وحوض البحر المتوسط والقطب الشمالي المتجمد، ويساعدها ضم جزيرة القرم على البحر الأسود على النفاذ الدائم إلى بحر مرمرة.
وعمدت أمريكا منذ زمن بعيد إلى تمتين روابطها التجارية والعسكرية البحرية بإطلاق أساطيلها في مياه المحيط الهادىء والخليج العربي والبحر المتوسط لضمان الوصول إلى منبع النفط والإشراف على إمداداته، حيث تعتبر مضايق هرمز وجبل طارق وملقا جزءا من أمنها القومي الاستراتيجي، وهي مضايق وقنوات بالغة الحيوية الاستراتيجية في تأمين مسالك التجارة العالمية.
يبقى القول إن ساحة الصراع والنفوذ الدولي خلال المرحلة المقبلة ستكون على الممرات البحرية بعد توجهات بعض القوى العالمية لإحياء طرق التجارة القديمة، وهو ما يفرض تحديات كبيرة على الدول العربية لتطوير ممراتها البحرية، حتى تتمكن من خوض غمار المنافسات الاقتصادية العالمية، في ظل حقيقة أن السيطرة على هذه المساحات هي مفتاح التحكم الإقليمي والدولي.
المصدر: أ ش أ