أتفهم لماذا تطلق حركة حماس صواريخها بين الحين والآخر من غزة على إسرائيل. لولا هذه الصواريخ لما انتبه العالم للسجن الكبير الذي يدعى غزة». هذا الكلام للصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، وجاء في الحلقة الأخيرة من البرنامج التحقيقي الهولندي «زمبلا»، التي حملت عنوان «محبوسون في غزة». وعرضت على شاشة القناة الحكومية الثانية، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية للحرب الإسرائيلية الأخيرة على المدينة، التي تشكل أكثر من غيرها من المدن الفلسطينية مثالاً على ظلم إسرائيلي لا حدود له، وأيضاً تذكيراً مُتواصلاً بفشل المجتمع الدولي في وقف إسرائيل من التدمير المنتظم للمدينة وخنق سكانها.
تصل مراسلة التلفزيون الهولندي بسهولة نسبية إلى غزة من المعبر الوحيد الذي يربطها بإسرائيل، على عكس «ليفي» الممنوع من دخول المدينة منذ حوالى ثماني سنوات لمواقفه الناقدة تجاه ما يحصل في المدينة. تسير المراسلة الهولندية أكثر من ثلاث كيلومترات عبر حواجز كونكريتية وكهربائية، قبل أن تصل الى المدينة، التي تحلق فوقها منطادات إسرائيلية بكاميرات تراقب كل شيء.
تنقل الشابة الفلسطينية التي درست في هولندا ورافقت الفريق التلفزيوني، كيف أنها كانت تتلقى، مثلها مثل سكان المدينة، رسائل على الهواتف المحمولة من الجيش الإسرائيلي عن مواعيد الضربات الجوية المقبلة في الحرب الأخيرة. هــــذه الدقــــة العسكرية للجيش الغازي لم تمـــنع طائراته من أن تقصف مدارس الأمم المتحدة في المدينة، على رغم أنّ المنظمة الدولية قدمت إحداثيات تلك المدارس للجيش الإسرائيلي. التحذير من القــصف لا معنى له وفق رأي الناشط الإسرائيلي في منظمة «كسر الصمت». فعندما تقصف بآلاف الصـــواريخ من الجو، مدينة تعد الأكثر كثافة سكانية في العالم، يسقط مئات وحتى آلاف الضحايا من المدنيين.
يمكن أن نرى آثار الحرب الأخيرة المدمرة من الجو أيضاً، كما يصورها البرنامج الهولندي في مشاهد صادمة جداً. أحياء كاملة هدمت. في واحدة من العمارات، تحاول أُمّ فلسطينية مع أبنائها أن تستدل على ما كان يوماً ما بيتهم. وعلى رغم ألم تدمير البيت، أشياء أخرى كثيرة تشغل بال تلك العائلة، فهي فقدت الأب في القصف، وتعيش اليوم مع الجد، الذي روى أن حفيده اليتيم سأله قبل أيام إذا كان من الممكن أن يناديه «أبي».
يبحث البرنامج عن الطفل الناجي الوحيد من مجزرة أطفال غزة التي وقعت في السادس عشر من شهر تموز (يوليو) الماضي، والتي صورتها كاميرا هواة وتحولت الى رمز لتلك الحرب. الطفل هذا، الذي فقد أخاه وأبناء عمومته عندما كانوا يلعبون على بحر غزة. هو اليوم مريض، تملأ الشظايا جسده، تداهمه نوبات عصبية غير مفهومة، والسلطات الإسرائيلية رفضت طلب والديه السماح لهم بالسفر الى إيطاليا، التي عرضت علاج الصبي في إحدى مستشفياتها.
يحقق البرنامج في ما آلت إليه المساعات المالية الهولندية لغزة في العقد الأخير (60 مليون دولار). فيقدم مشاهد أرشيفية غلب عليها التفاؤل لوضع حجر الأساس لميناء غزة قبل سنوات، والذي حضره رئيس الوزراء الهولندي وقتها فيم كوك. لكن الميناء هذا وبعد اكتمال مبانيه دمرته بالكامل الطائرات الإسرائيلية. حالياً، يتجه الدعم الهولندي الى مزارعي المدينة. وفي شراء جهاز متقدم كثيراً للكشف عن القنابل المخبأة في الشاحنات الكبيرة. لكن هذا الجهاز الغالي يكاد أن يكون ترفاً على المدينة، فليس هناك الكثير الذي تصدره غزة الى الخارج.
ينقل التحقيق التلفزيوني صورة سوداوية جداً عن المدينة التي تحولت إلى سجن كبير. مليونان من سكانها محبوسان داخله، لا يستطيعان المغادرة من دون طلبات إذن معقدة، في وقت تمنع فيه إسرائيل دخول مواد البناء الى المدينة من أجل إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة، ليعيش سكانها بين الأنقاض. معظمهم على خط الفقر والعوز. ومن يملك بعض المال للتسوق، عليه أن يشتري البضائع الإسرائيلية، الوحيدة التي يسمح بدخولها الى المدينة بعدما دمرت إسرائيل البنية الصناعية التي كانت موجودة، ليرتهن كل تفصيل من الحياة اليومية بالاحتلال وقراراته .
المصدر : صحيفة الحياة اللندنية