جاءت دعوة الرئيس الفلسطينى محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في السادس والعشرين من شهر سبتمبر الماضى إلى إجراء انتخابات عامة في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة، كاشفاً عن حالة من الجدل بمختلف الأوساط الفلسطينية السياسية والشعبية، ومثيراً للعديد من التساؤلات بشأن جدية إجراء هذه الانتخابات من عدمه، وسيناريوهات المشهد الفلسطيني المرتقب.
تشير تطورات المشهد الفلسطيني إلى أن الانتخابات تحتاج إلى توافق وطني بين الفصائل الفلسطينية وإلى حد أدنى من الاتفاق على شكل النظام السياسي وماهيته، وحدوده، والاتفاق على الاستراتيجية الوطنية والسياسية، بعدما شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة مؤخراً يوم غضب شعبي رفضاً للقرارات والسياسات الأمريكية الحالية المنحازة ضد القضية الفلسطينية والتي كان آخرها إعلان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تخالف الشرعية الدولية.
أجواء غير مهيأة
أحدثت دعوة الرئيس محمود عباس بإجراء انتخابات عامة، حالة من الارتباك والجدل وعمقت الانشقاق السياسي بين القوى الفلسطينية ، فحركة المقاومة الإسلامية “حماس” تتحدث عن ضرورة أن يسبق إجراء الانتخابات حدوث توافق وطني بين الفصائل الفلسطينية، وعلى ضرورة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، وتتمسك بمبادرة أطلقتها فصائل فلسطينية ووافقت عليها حماس.
في المقابل ، وتعليقا على هذا الموقف ، قال الناطق باسم الناطق باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني ” فتح ” عضو مجلسها الثوري : حماس ليست معنية بالانتخابات؛ لأنها تعرف أن الانتخابات قد تكلفها الحكم أو ماء وجهها أو كلا الأمرين معاً”، واتهمت فتح حركة حماس بالتهرب من إجراء الانتخابات الفلسطينية، مشيرة إلى أن حماس تتعامل مع الحكم في قطاع غزة باعتباره ملكا لها وليس ولاية مؤقتة.
والواقع أن القدرة الفلسطينية على بناء وفاق وطني محدودة، في الوقت الذي يتزايد فيه دور المؤثرات الإقليمية والدولية المعرقلة لهذا التوافق، حيث ظهرت أنماط جديدة من الصراعات والتحالفات في المنطقة استقطبت اهتمام وموارد القوى الإقليمية وغيرت أولوياتها السياسية، وكذا تغلغل النزعات الشعبوية اليمينية في العالم كله بتداعياتها الدولية السلبية.
والأمر المؤكد أن هذا التوافق قابل للتحقق رغم كل هذا، لكنه يحتاج إلى بعض التنازلات من جانب حركتي حماس وفتح، فالأولى عليها انتهاج مزيد من البرجماتية، والثانية يتعين عليها الإقرار بمأزق مسار أوسلو الهيكلي العميق وتفكيك شبكات المصالح التي تولدت بين نخبها المسيطرة، وقد يبدو التناقض والخلاف بين فتح وحماس في عدة ظواهر:
**أولها: الخلاف حول توقيات الانتخابات الرئاسية والنيابية: ينص القانون الأساسي وقانون الانتخابات ومصالحة 2011 علي توقيتهما، ولكن ليس هناك إجماع سياسي عملي على هذا، تريدهما حماس في توقيت واحد بينما ترى فتح الفصل الزمني بينهما ولكل خيار سلبياته.
وقد ساهم الفصل الزمني بين الانتخابات السابقة في ظهور نتائج متناقضة أفقدت النظام وحدته السياسية، ولكن توحيد التوقيت سيحمل أيضا درجة من التوتر السياسي قد لا تتحملها التركيبة الهشة لمؤسسات السلطة، وسيخلق فراغا دستوريا لفترة يحمل معه مخاطر غير هينة.
** ثانيها: الخلافات حول القوانين المنظمة للانتخابات: انتهجت انتخابات 1996 نظام الأغلبية وفقا للقانون رقم 16 لسنة 1995. وانتهجت انتخابات 2006 النظام المختلط وفقا للقانون رقم 9 لسنه 2005. وفي 2007 صدر القانون رقم 1 الذي ألغى قانون 2005 وهجر النظام المختلط إلى النسبي الكامل. وأعاد الأمر الصادر بشأن الانتخابات الجديدة التشديد على النسبية الكاملة، وعلى ضرورة إقرار كل المرشحين بخيارات منظمة التحرير السياسية وأنها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين. وكل هذا لا يحظ بإقرار حماس وغيرها من القوى.
** ثالثها: تسييس القضاء الفلسطيني: كان الاتفاق المسبق بين فتح وحماس على حق محاكم القطاع في النظر في الطعون الانتخابية، ولكن فتح انقلبت على الاتفاق ونجحت في الدفع بمحكمة العدل الفلسطينية العليا إلى الحكم بعدم شرعية محاكم القطاع، وإلغاء نتائج الانتخابات فيه.
سيناريوهات محتملة
في ظل حالة التناقض والخلافات الواضحة بين حماس وفتح وعدد من القوى الفلسطينية، يطرح المراقبون عدة سيناريوهات تحدد مشهد الانتخابات الفلسطينية المرتقبة على النحو التالي :
** السيناريو الأول : عدم إجراء الانتخابات، هذا السيناريو يبنى على أساس أن طرح موضوع الانتخابات والترحيب بها من مختلف الأطراف هو مجرد مناورة يحاول فيها كل طرف إلقاء مسؤولية عدم انعقادها على الطرف الآخر.
** السيناريو الثاني : فهو إجراء انتخابات تشريعية متوافق عليها، يقوم هذا السيناريو على إجراء انتخابات ، وخاصة للمجلس التشريعي بصورة متوافق عليها بين طرفي الانقسام . وهذا السيناريو يمكن أن يتحقق إذا أعاد الرئيس طرح الاقتراح الذي تم التداول به منذ العام 2016، وأيده الرئيس ولم تعارضه “حماس”، ويقضي بتشكيل قائمة مشتركة تضم مرشحي حركتي فتح وحماس ومن يوافق على المشاركة فيها، وترك عدد من المقاعد لمن يقرر خوضها بمفرده.
** السيناريو الثالث : إجراء انتخابات تشريعية غير متوافق عليها في الضفة فقط ، يقوم هذا السيناريو على إجراء انتخابات تشريعية في الضفة فقط ، وهو سيناريو غير مستبعد، لاسيما بعد عقد الانتخابات المحلية في الضفة فقط، وعقد المجلس الوطني بشكل انفرادي وبمن حضر، وحل المجلس التشريعي ومجلس القضاء، وإحالة ربع القضاة إلى التقاعد . وهذا السيناريو خطير جداً كونه سيقضي على بقايا الأمل باستعادة زمام المبادرة ومواجهة المخاطر المحدقة.
** السيناريو الرابع : الوحدة، يقوم هذا السيناريو على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية أولاً كمدخل لإجراء الانتخابات ضمن مقاربة وطنية تكون فيها الانتخابات أداة من أدوات الكفاح ضد الاحتلال وتعبيرا عن تجسيد الدولة الفلسطينية على الأرض. وهو سيناريو مفضل، لكنه مستبعد لعدم وجود أدوات وروافع له، وهو بحاجة إلى الشروع في حوار وطني للاتفاق على رؤية شاملة واستراتيجية واحدة.
يعزز هذا السيناريو حجم المخاطر الجسيمة التي تهدد القضية والحركة الوطنية والنظام السياسي والأرض والشعب والإنسان الفلسطيني، كما يدعمه أن فرصة إجراء الانتخابات لن تكون متاحة في ظل تعمق الانقسام والتحريض والاتهامات المتبادلة والنفوذ القوي لجماعات مصالح الانقسام هنا وهناك، والأطراف والمحاور العربية والإقليمية.
ويبقى الأمل معقوداً على قدرة الفصائل والقوى الفلسطينية في التوصل إلى حالة من التوافق وأولوية إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والاتفاق على أسس الشراكة السياسية الناظمة للحياة الديمقراطية والتعددية وقواعد معالجة الخلافات، باعتبارها المدخل الوحيد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)