تواجه هيمنة الدولار الأمريكى أخطر تحدٍ منذ عقود، بعدما أطلق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب موجة اضطراب عالمى بإعلانه فرض تعريفات جمركية شاملة على أكثر من 100 دولة، والتى تجاوزت تداعياتها حدود الأسواق ممتدة إلى العملة الأمريكية التى تعد منذ عقود ملاذًا آمنًا وعملة احتياطية أولى.
وانخفض الدولار الأمريكى، الليلة الماضية، بأكثر من 1% أمام سلة من العملات الأجنبية، ليصل إلى أدنى مستوى له في 3 سنوات، ما يفاقم تراجعًا بنحو 10% منذ بداية العام، وخلال أسبوع واحد فقط، فقد الدولار نحو 3 سنتات أمام الجنيه الإسترلينى و4 سنتات أمام اليورو، وفقًا لصحيفة “الجارديان” البريطانية.
ورغم تراجع جزئى من جانب ترامب – بتجميد التعريفات الجمركية عند 10% على جميع الواردات الأمريكية باستثناء القادمة من الصين لمدة 90 يومًا، فإن الأسواق انتقلت من موجة ارتياح مؤقتة إلى حالة من الهلع المتجدد، وسط شكوك غير مسبوقة لدى المستثمرين حول احتمالية فقدان الدولار الأمريكى مكانته كملاذ آمن.
وقال جورج سارافيلوس، رئيس أبحاث العملات الأجنبية فى بنك دويتشه الألمانى: “لقد وقع الضرر بالفعل، السوق يعيد تقييم الجاذبية الهيكلية للدولار كعملة احتياطية عالمية، وهناك عملية تسارع فى الابتعاد عن الاعتماد على الدولار”.
وعلى عكس ما يحدث عادة فى موجات البيع بالأسواق، فإن موجة التعريفات الجمركية الأمريكية، التى تم تسميتها “انهيار ترامب”، شملت الأسهم الأمريكية والسندات الحكومية لوزارة الخزانة والدولار معًا، وهى ظاهرة غير معتادة، إذ يلجأ المستثمرون عادة إلى شراء الدولار وسندات الخزانة الأمريكية فى أوقات الاضطراب وعدم اليقين المالى.
وعلى مدار الثمانين عامًا الماضية، احتفظ الدولار الأمريكى بمكانته كعملة احتياطية أولى فى العالم، تُستخدم كمخزن للقيمة، وأداة لتشغيل النظام المالى العالمى، ووسيط فى التبادل التجارى، وذلك لإيمان المستثمرين من أن العملة تقف خلفها حكومة تقود أكبر اقتصاد فى العالم، وتتمتع بأسواق رأسمالية عميقة، وقوة عسكرية كبرى، ونظام سياسى يحترم سيادة القانون.
لكن ترامب غيّر تلك القواعد، بعدما فرض تعريفات جمركية على حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها على حد سواء، وصلت إلى 104% رسوم جمركية على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
وقال راجورام راجان، المحافظ الأسبق للبنك المركزى الهندى وكبير الاقتصاديين فى صندوق النقد الدولى سابقا، إن أزمة العملة ناتجة عن قلق المستثمرين بشأن الاقتصاد الأمريكى والتقلبات المفاجئة في سياسات ترامب، مضيفا: “هناك قلق من مدى التقلب وعدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الأمريكية، إلى جانب مخاوف متزايدة من أن استمرار ارتفاع التعريفات سيقود إلى ركود اقتصادي في الولايات المتحدة”، مشيرًا إلى أن “سياسة التعريفات لا تزال هدفًا متحركًا”.
وظهرت علامات فقدان الثقة بشكل واضح في سوق السندات الأمريكية، التى تُعد الأهم عالميًا، نظرًا لاعتماد المستثمرين عليها كمعيار “خالٍ من المخاطر” لتسعير الأصول المالية الأخرى، حيث شهدت السوق أكبر حركة أسبوعية منذ عام 1982، وارتفع سعر الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية لأجل 30 عامًا من نحو 4.4% إلى 4.8%. كما ارتفع على السندات لأجل 10 سنوات.
ويقول المستثمرون إن هناك الكثير من العوامل المؤثرة، فرغم أزمة الثقة الواضحة، إلا أن التقلبات في الدولار والسندات تعكس أيضًا الأضرار الاقتصادية المتوقعة نتيجة سياسات ترامب، بما في ذلك احتمال يتجاوز 50% لدخول الاقتصاد الأمريكي فى ركود، وزيادة احتمال لجوء مجلس الاحتياطي الفيدرالى إلى خفض أسعار الفائدة.
وفى ظل حالة الانهيار الواسع بالأسواق الأمريكية، حيث تم محو أكثر من 5 تريليونات دولار من قيمة الأسهم، انعكس بيع سندات الخزانة أيضًا على صناديق التحوط والتي اندفعت إلى التخلص من سندات الخزانة لتقليص المخاطر، وسعى المستثمرين لتحويل الأصول إلى نقد.
وقال مارك سوبل، المسؤول السابق بوزارة الخزانة الأمريكية والذى يشغل حاليًا رئاسة فرع الولايات المتحدة فى منتدى المؤسسات المالية والنقدية الرسمية: “أرى أن وجهات نظر ترامب التجارية ضرب من الجنون، إنه يضر بالاقتصاد الأمريكي وخلق أزمة لا داعي لها”، مضيفا: “رأيي الأساسي أن الدولار سيظل العملة العالمية المهيمنة في المستقبل المنظور، لعدم وجود بدائل حقيقية، لكن ترامب من خلال إضعاف الأسس الاقتصادية والمؤسساتية لأمريكا، وعدم كونه شريكًا موثوقًا، يقوّض الأساس الذي نشأت عليه هيمنة الدولار”.
وتُظهر بيانات صندوق النقد الدولى أن الدولار الأمريكى لا يزال العملة الاحتياطية المفضلة عالميًا، حيث يمثل نحو 60% من الاحتياطيات الأجنبية، ويأتي اليورو في المرتبة الثانية بنسبة نحو 20%، يليه الين الياباني بنسبة تقارب 6%، والجنيه الإسترليني بنسبة تقارب 5%.
وبحسب صحيفة “الجارديان”، يعتبر بعض مسؤولى إدارة ترامب أن مكانة الدولار كعملة احتياطية دولية أمر غير مرغوب فيه، باعتبارها علامة على استغلال العالم للولايات المتحدة، مشيرة إلى أن ترامب لطالما رغب فى ضعف الدولار، معتقدًا أن ذلك سيساعد على جعل السلع الأمريكية أرخص للمشترين الأجانب، ما يعزز الصناعة المحلية ويساهم في تقليص العجز التجاري الأمريكى.
وفى ظل غموض مستقبل الدولار، تبحث دول الاتحاد الأوروبى بشكل خاص عن خطط بديلة، ورأى خوسيه لويس إسكريفا، محافظ بنك إسبانيا المركزى وعضو المجلس الحاكم للبنك المركزي الأوروبى، إن الاتحاد الأوروبى قد يصبح خيارًا أكثر جاذبية، مضيفا: “بإمكاننا أن نقدم منطقة اقتصادية كبيرة وعملة قوية، تستفيد من الاستقرار وقابلية التنبؤ الناتجة عن السياسات الاقتصادية السليمة واحترام سيادة القانون”.
فى السياق نفسه، أشار باسكال لامى، المفوض التجارى السابق فى الاتحاد الأوروبى والرئيس الأسبق لمنظمة التجارة العالمية، إلى أن حرب ترامب التجارية قد تدفع الدول الأخرى إلى تعزيز تعاونها فيما بينها، موضحا: “الاتحاد الأوروبي هو المرشح الطبيعي لتوحيد صفوف عدد من الدول، لن ينجح الأمر إذا قامت به الصين أو حتى الهند”.
وختم لامى قائلًا: “إنها أزمة أمريكية وليست أزمة عالمية، الولايات المتحدة تمثل 13% فقط من الواردات العالمية، ولا يوجد سبب يدعو لأن يتأثر الـ87% الباقى بهذه السياسات الاقتصادية العبثية”.
المصدر: أ ش أ