لم يكن توقيت الجولة الشرق أوسطية الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قبيل المصادفة ، بل كان مقصودا على الأرجح .
فقد اختار بوتين القيام بهذه الجولة، التي شملت كلا من سوريا ومصر وتركيا ، في نهاية عام 2017 والذي شهد تعزيز وتكريس موقع روسيا كفاعل ولاعب دولي مؤثر على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، وحاضر في كثير الملفات والأزمات الساخنة في المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية.
كما كان لافتا للانتباه في توقيت جولة بوتين الأخيرة ، أنها جاءت بينما تواجه الولايات المتحدة مأزقا عميقا عقب اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي يرى الكثرون أنه ينهي عمليا دور واشنطن كوسيط مقبول في عملية السلام .
منذ تدخلها العسكري في سوريا لدعم قوات النظام وحلفائه منتصف شهر مارس 2015 ، فرضت روسيا نفسها كلاعب دولي في المنطقة ، مستفيدة في ذلك من حالة الارتباك والتخبط التي ميزت السياسة الأمريكية تجاه المنطقة منذ أواخر عهد الرئيس السابق باراك أوباما ، ثم التقارب في التوجهات مع الرئيس الحالي دونالد ترامب.
كما أنها استفادت في الوقت نفسه من حالة الفراغ والانهيارات والتحولات التي شهدها ويشهدها النظام الإقليمي العربي منذ مطلع عام 2011.
وقد أتاح تراجع الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط وارتباك السياسات الخارجية لواشنطن سواء في ظل إدارة أوباما أو خلال ولاية ترامب الحالية ،وكذا تراجع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ، لروسيا تعزيز نفوذها في المنطقة ،ولاسيما في الملف السوري.
وفي هذا الإطار بدت زيارة بوتين الخاطفة لسوريا التي استهل بها جولته ، تتويجا لتعاظم الدور الروسي في المنطقة ، حيث جاءت بعد نجاح القوات الروسية في تغيير موازين القوة على الأرض لصالح قوات النظام .
وفيما يشبه إعلان النصر وتحقيق أهداف روسيا ، أعلن بوتين عن انسحاب جزئي للقوات الروسية بعد الانتصار على الجماعات الإرهابية هناك .
واختار بوتين أن يعلن هذا الانتصار من قاعدة حميميم العسكرية بمحافظة اللاذقية، حيث ستحتفظ روسيا بوجود عسكري طويل الأمد هناك بهدف تأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة .
وإلى جانب قاعدة حميميم ،تحتفظ روسيا بوجود عسكري بحري في قاعدة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط وهوما يحقق لها حلما دائما بالتواجد على المياه الدافئة.
وفي موازة دورها في سوريا عززت روسيا خلال السنوات الأخيرة علاقتها مع عدد اللاعبين الاقليميين الأساسين فى المنطقة وعلى رأسهم مصر ، حيث شهدت العلاقات المصرية الروسية ،لاسيما منذ مجىء الرئيس عبد الفتاح السيسي، تقاربا لافتا على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وجاءت زيارة بوتين الأخيرة للقاهرة ، والتي تعد الثانية له في عهد الرئيس السيسي ، ترجمة لهذا التقارب الكبير في العلاقات بين البلدين.
إقليميا أيضا أصبحت روسيا أحد اللاعبين المهمين في الأزمة الليبية، من خلال تعزيز علاقاتها مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، والذي زار موسكو أكثر من مرة ، وتؤيد موسكو بقوة أن يكون هناك دور لحفتر في رسم مستقبل ليبيا، لاسيما بالنظر إلى دوره في محاربة الإرهاب.
تسعى روسيا من خلال عودة القوية إلى ساحة الشرق الاوسط إلى تحقيق عدة أهداف أهمها :
-استعادة مواقع النفوذ التي فقدتها في المنطقة عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ،والعمل على تصحيح الخلل في موزاين القوى الدولي ،بما يساهم في تكريس نظام عالمي متعدد الاقطاب ينهي التفرد الأمريكي بمقدرات العالم .
ووفقا لهذا التصور سعت روسيا في عهد بوتين لتعزيز علاقاتها وتحالفاتها في المنطقة بدءا من التدخل العسكري في سوريا مرورا بالتحالف مع إيران وإقامة علاقات قوية مع إسرائيل ،انتهاء بتعزيز علاقاتها وتعاونها مع مصر والعراق والسعودية وتركيا.
– محاربة التطرف والإرهاب ،والذي يشكل أحد اهم الأهداف بالنسبة لإدارة بوتين. إذ ترى موسكو أن تنامي الجماعات المتطرفة والإرهابية في الشرق الإوسط يمثل تهديدا أمنيا لروسيا ، خصوصا في ظل التقارير التي تتحدث عن أن المئات من أعضاء تنظيم داعش يحملون الجنسية الروسية .كما أن لدى روسيا قناعة راسخة بأن انتشار التطرف يعزز النزاعات الانفصالية داخل روسيا ،على غرار ما حدث في الشيشان وشمال القوقاز ، وهي ثغرة تخشى موسكو من أن يستغلها الغرب لتهديد أمنها القومي ، بالنظر إلى التركيبة الديمغرافية لروسيا والتي يشكل المسلمون نحو 17 في المائة من سكانها .وفي هذا الإطار فقد بررت روسيا تدخلها العسكري في سوريا بدعوى محاربة الإرهابيين.
– والهدف الثالث اقتصادي ،حيث تسعى روسيا لتعزيز مصالحها الاقتصادية، وخصوصا في مجال الغاز والنفط، فروسيا أحد اكبر منتجي الغاز في العالم، ومن ثم فهي بحاجة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة، خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي بالنظر إلى ما تمثله هذه الدول من قوة اقتصادية ونفطية هائلة.
-عقد مزيد من صفقات السلاح ، خصوصا وأن هذه المنطقة تحتل المركز الأول من حيث شراء السلاح في العالم، كما تحاول روسيا الاستفادة من تنامي طلب اقتناء التكنولوجيا النووية للاغراض السلمية من جانب العديد من دول المنطقة، وقد وقعت اتفاقيات في هذا الشأن مع كل من مصر وتركيا .
وقد توفرت مجموعة من العوامل والدولية والإقليمية والمحلية التي مكنت روسيا من تعزيز دورها في المنطقة .
فعلى الصعيد الدولي ساعد تراجع الدور الأمريكي في قضايا المنطقة الملتهبة ، موسكو للعودة بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية .
كما أتاح مجىء ترامب إلى البيت الأبيض وما حدده من أولويات كان على رأسها الحرب على الإرهاب ، الفرصة لروسيا للتدخل بقوة المنطقة ، وخصوصا سوريا.
وعلى المستوى الاقليمي وجدت روسيا في حالة الاضطراب والفوضى التي ضربت العديد من دول المنطقة منذ اندلاع ما سمي بـ”الربيع العربي”، فرصة مؤاتية لاستعادة نفوذها ، كما استفادت موسكو أيضا من علاقاتها مع إسرائيل والتوافق الكبير بين الجانبين، لتسهيل مهمتها العسكرية في سوريا.
أما على الصعيد الداخلي فقد شكل هدف استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى على الساحة الدولية ، أحد أدوات بوتين لتعزيز شرعيته في الشارع الروسي.
لكن في مقابل ذلك هناك عدد من العقبات أمام طموحات روسيا لاستعادة مكانتها العالمية ،وهندسة النظام العالمي عبر بوابة الشرق الأوسط، أول هذه العقبات أن منطقة الشرق الأوسط كانت تقليديا منطقة نفوذ أمريكي. ورغم أن موسكو حاولت على الدوام أن يكون لها حضور وتأثير في المنطقة، إلا أن واشنطن ظلت دائما هي اللاعب الأهم والأكثر تأثيرا.
ويرى أصحاب هذه الرؤية أن الولايات المتحدة ليست بوارد التخلي عن هذا الموقع لروسيا أو غيرها ، وأنه رغم ما يبدو من اضطراب وتعثر في السياسات والمواقف الأمريكية ، فإن ذلك لا يعني تغييرا جوهريا في السياسة الأمريكية تجاه قضايا المنطقة .
المصدر : أ ش أ