في الوقت الذي تحتفل فيه مصر والأمة العربية كلها بذكرى رحيل محمد عبد الوهاب ابن حي باب الشعرية في قلب القاهرة العتيقة فإن فنه لا يزال يتربع في قلوب الملايين وألحانه وأغانيه ذاتها تتحول إلى “أيقونة للحنين”، بينما تميز شأن المبدعين الكبار بتعدد مواهبه الفنية ما بين الغناء والتلحين والتأليف الموسيقي والتمثيل السينمائي.
ورغم مرور كل هذه السنوات على رحيل “موسيقار الأجيال” و”فنان الشعب” الذي قضى عن عمر يتجاوز الـ89 عاما، يبدو أن هناك مدا في مشاعر الحنين لزمن صاحب “النيل نجاشي” و”مضناك جفاه مرقده” و”ليالي الشرق” و”عندما يأتي المساء” و”دمشق” و”النهر الخالد” و”الجندول” و”كليوباترا” و”الكرنك”، حيث اقترن زمنه بنهضة غنائية وموسيقية، بل وطفرة إبداعية شملت المسرح والسينما والكتاب، فيما تسكن ألحانه وأغانيه الوطنية والقومية الوجدان المصري والعربي مثل :”على باب مصر “، و”الوطن الأكبر”، و”أصبح عندي الآن بندقية”، و”مصر الحبيبة”.
والموسيقار محمد عبد الوهاب – الذي بدأ حياته الفنية مطربا بفرقة فوزي الجزايرلي في عام 1917 – سرعان ما اتجه لصقل موهبته بالدراسة اعتبارا من عام 1920 في معهد الموسيقى العربية أو “نادي الموسيقى الشرقي” حينئذ ، حيث درس العود ليكون عبر رحلته الفنية المديدة أحد أهم من شكلوا الوجدان العام والذائقة الفنية للمصريين والعرب على وجه العموم .
ففنان الشعب محمد عبد الوهاب انتزع بألحانه وأغانيه أحلى الآهات من أعماق جماهيره التي أمتعها سواء بأغانيه أو بألحانه لتشدو بها أم كلثوم ، فضلا عن اسمهان وليلى مراد وعبد الحليم حافظ وفيروز وفايزة أحمد ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وصباح وطلال المداح وغيرهم الكثير من فاني مصر والوطن العربي.
وإذا كانت جمهرة النقاد والكتاب تصف أم كلثوم بأنها “مطربة القرن العشرين في مصر والعالم العربي”، فإن كوكب الشرق قدمت عشر أغنيات من ألحان محمد عبد الوهاب في غضون تسع سنوات ، لتكون بحق لقاءات السحاب وهي :”أنت عمري,أمل حياتي, وليلة حب” من كلمات أحمد شفيق كامل و”على باب مصر” من كلمات كامل الشناوي و”أنت الحب” للشاعر أحمد رامي و”فكروني” وهي من كلمات عبد الوهاب محمد و”هذه ليلتي” للشاعر جورج جرداق و”أصبح عندي الآن بندقية” للشاعر السوري الراحل نزار قباني و”دارت الأيام” من كلمات مأمون الشناوي و”أغدا القاك” للشاعر السوداني الكبير الهادي آدم.
وكان أمير الشعراء أحمد شوقي بمثابة “الأب الروحي” للشاب الصغير محمد عبد الوهاب ، وساهم في بناء تكوينه الثقافي ورعاية موهبته ودعمه في كل المحافل ، ومن ثم بناء أيقونة فنية وثقافية مصرية خالدة.
ومضى عبد الوهاب ليكمل مسيرة سيد درويش الذي يعد من معلميه الأوائل فأعاد توزيع لحن سيد درويش لنشيد “بلادي..بلادي” ليكون منذ ذلك التاريخ النشيد الوطني لمصر.
وأغاني محمد عبد الوهاب وألحانه التي حظت بإقبال منقطع النظير من الجماهير ، إنما كشف انتشارها عن أن ذائقة المصريين عالية وواعية وعاشقة لكل ما هو أصيل ومبدع في الكلمات والألحان والغناء.
وشارك موسيقار الأجيال أيضا في عدد من الأفلام السينمائية هي : “الوردة البيضاء”, “دموع الحب”, “يحيا الحب”, “يوم سعيد”, “ممنوع الحب”, “رصاصة في القلب”, “لست ملاكا” و”غزل البنات”.
ورغم مرور ربع قرن على وفاته سيبقى محمد عبد الوهاب علامة خالدة من علامات الإبداع الفني العربي في القرن العشرين فهو صاحب مقولة : “التراث هو الأصل والمعاصرة هي الواقع ، ومن أجل أن نقدم فنا كاملا لا يمكننا أن نتخلص من أصلنا ولا يمكن أيضا أن نتجاهل معاصرتنا للواقع”.
المصدر : وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)