يبدو أن قضية مكافحة الإرهاب ستظل على رأس أولويات الدولة الفرنسية لفترة قادمة ليست بالقصيرة، ففرنسا من أكثر الدول الأوروبية التي تعاني من تنامي ظاهرة “التطرف” والتي خلفت العديد من الهجمات الإرهابية. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، شهدت فرنسا حوالي 18 هجوما، أبرزها الهجوم على مقر صحيفة شارلي ايبدو في يناير 2015، والذي أحدث زلزالا كبيرا حينذاك على الساحة الفرنسية، تلاها هجمات باريس خلال نوفمبر من العام نفسه، وهجوم يوليو 2016 في مدينة نيس، ثم هجوم ستراسبوغ في ديسمبر 2018، وغيرها من الهجمات التي خلفت نحو 259 قتيلا ومئات الجرحى.
وتعيش فرنسا هذه الأيام أجواءاً مضطربة في أعقاب الحادث الإرهابي الذي تسبب في مقتل مدرس فرنسي على يد شاب متطرف من أصول شيشانية، في واقعة غير مسبوقة على الساحة الفرنسية وهو ما أثار حالة من الصدمة والذعر بين المواطنين ودفع بالسلطات لاتخاذ إجراءات صارمة للقضاء على الجماعات المتطرفة داخل البلاد، ووضع حد لهذه الهجمات الإرهابية المتصاعدة.
وقبل نحو اسبوع شهدت ضاحية “كونفلان سانت-أونورين”، الواقعة غرب العاصمة باريس مقتل مدرس التاريخ الفرنسي، صامويل باتي، بقطع رأسه على يد عبد الله أنزوروف، لاجئ من أصول شيشانية، نتيجة عرض المدرس على تلاميذه لرسوم مسيئة للنبي نشرتها جريدة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة ونجحت الشرطة في القضاء على منفذ الجريمة بعد إصابته بتسع رصاصات.
وأثارت هذه الحادثة ذعرا واسعا داخل الأوساط الفرنسية حيث أنها المرة الأولى التي يستهدف فيها القطاع التربوي بعمل إرهابي، وهو ما أثار حالة من الغضب داخل المجتمع الفرنسي، أدت إلى اندلاع مظاهرات ومسيرات حاشدة في باريس وغيرها من المدن الفرنسية للتنديد بهذه العملية الإرهابية والدفاع عن المبادئ العلمانية والحريات، بمشاركة أعداد كبيرة من مسؤولي الأحزاب السياسية والنقابات، إلى جانب المواطنين، الذين رفعوا لافتات تطالب بـ”حرية التعبير والتدريس” في فرنسا.
وتأتي هذه الحادثة بعد ثلاثة أسابيع من عملية إرهابية أخرى قام بها رجل باكستاني أمام المقر السابق لجريدة “شارلي إيبدو”، أسفرت عن إصابة شخصين بجروح بالغة، وكان ذلك رداً على إعادة نشر الصحيفة للرسوم الكاريكاتورية المسيئة، وفق ما صرح به منفذ الاعتداء في التحقيقات.
ويرى المراقبون أن السبب وراء تركز الهجمات الارهابية في فرنسا هو أنها من أكثر الدول التي تلعب دورا رئيسيا في الحرب على الإرهاب، في إشارة إلى دورها البارز في التحالف الدولي ضد “داعش” في سوريا والعراق، فضلا عن قيادتها لقوات تحالف دول الساحل والصحراء في أفريقيا منذ عام 2013، من خلال نشر 5100 جندي فرنسي لمحاربة الجماعات الإرهابية في المناطق الشمالية من مالي.
وعلى الرغم من أن المشاركة الفرنسية ساهمت في دحر تنظيم داعش بدرجة كبيرة، إلّا أنها فتحت الباب أمام رغبة التيارات المتطرفة في الانتقام، وهو ما ظهر بوضوح خلال العمليات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا مؤخرا، والتي أعلنت داعش عن تبنيها عددا كبيرا منها.
وفي مواجهة هذه الهجمات الارهابية، اتخذت السلطات الفرنسية عدة قرارات حاسمة وصارمة لمواجهة التيارات المتطرفة حيث أعلن الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، مؤخرا خلال اجتماع المجلس الأعلى للدفاع عن “خطة عمل” ضد “الكيانات والجمعيات أو الأشخاص المقربين من الدوائر المتطرفة” الذين ينشرون خطاب الكراهية أو يدعمونه، متعهدا بـ”تكثيف التحركات” ضد الجماعات الإرهابية وتعزيز الأمن في المنشآت المدرسية قبل موعد عودة الدخول المدرسي اوائل نوفمبر المقبل.
كما قامت الشرطة الفرنسية بعمليات مداهمة وتوقيف ضد عشرات الأشخاص المرتبطين بالتيارات المتطرفة، والذين تم استهدافهم بناء على خطبهم المتطرفة، ورسائل الكراهية التي يبثونها على شبكات التواصل الاجتماعي.
وأعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، أنه سيتم طرد 231 شخصا من المصنفين خطرا على الأمن العام، فضلا عن إغلاق عشرات الجمعيات بعد بحث أحوالها والتأكد من مصادر تمويلها. كما طلب وزير الداخلية من الهيئات المختصة إمعان النظر بشكل أكثر حرصا بخصوص طلبات اللجوء المقدمة لفرنسا.
من جانبها، التقت وزيرة المواطنة الفرنسية، مارلين شيابا، بالمسئولين عن منصات ومواقع التواصل الاجتماعي في البلاد للتباحث معهم حول استراتيجيات أكثر فعالية لمكافحة التيار المتطرف في الفضاء الإلكتروني والذي تعده الحكومة مسؤولا عن انتشار الأفكار التطرفية بين الشباب .
ووفقا للمراقبين، فإن الحكومة الفرنسية حرصت على أن تتخذ إجراءات شديدة وصارمة للرد على هذه الحادثة الإرهابية خاصة في ظل اتهام المعارضة لها- وبالأخص التيار اليميني- بالتقاعس والتقصير في وضع حد للموجات الإرهابية التي ضربت البلاد منذ عام 2015 وقضت على حوالي 259 شخصاً، وخلفت مئات الجرحى.
واستغلت زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، مارين لوبن، هذه الحادثة لتشن هجوما على الرئيس ماكرون وتنتقذ سياسات الحكومة في مواجهة الجماعات المتطرفة، مطالبة بسن “قانون حرب” للحفاظ على أمن البلاد، وتعليق الهجرة بشكل فوري.
رداً على ذلك استنكر وزير العدل الفرنسي، إيريك ديبون موريتي، استغلال حادث مقتل “باتي” للترويج “لأغراض انتخابية”، واصفا هذا الأمر بأنه “غير لائق”، ومعتبراً أن هذه “المزايدات هي الشعبوية والديماجوجية بعينها”.
في ضوء المشهد السابق، يبدو أن حادث مقتل المدرس “باتي” سيدشن مرحلة جديدة لفرنسا في مكافحة الإرهاب فقد تبنت الحكومة لهجة أكثر تشددا وكشرت عن أنيابها بشكل ملحوظ في أعقاب هذا الحادث ، وهو ما يكشف أن الفترة المقبلة ستشهد إجراءات أكثر حزما، قد تصل إلى قوانين صرامة ، لكبح جماح الجماعات المتطرفة وتعزيز الأمن داخل البلاد واستعادة ثقة المواطنين لاسيما وأن ملف الارهاب من المتوقع أن يكون من أبرز الملفات التي يستخدمها المرشحين في الانتخابات الرئاسية 2022.
المصدر : أ ش أ