رصدت الأجهزة الأمنية العربية، تغيرا في “استراتيجية الإرهاب” لتنظيم داعش، وربطت بين مؤشرات عمليتين إرهابيتين في بلدة القاع اللبنانية، وفي مطار أتاتورك الدولي باسطنبول .. والعمليتان على درجة عالية من الخطورة .. ومن حيث التوقيت، جاءت التفجيرات في لبنان وتركيا عشية الذكرى الثانية لإعلان “دولة الخلافة “في التاسع والعشرين من يونيو في العام 2014، وبعد أسابيع قليلة من تهديد المتحدث الرسمي باسم “داعش” أبي محمد العدناني بتنفيذ عمليات قاتلة في شهر رمضان، رداً على الحملة العسكرية التي يتعرض لها التنظيم، والتي أدت إلى خسارته ما يقارب نصف المساحة التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق.
وإذا لم تكن هناك معطيات تؤكد أن تنظيم “داعش” يقصَّد تنفيذ هذه العمليات كتعبير عن إحياء ذكرى «خلافته». غير أن هذا التزامن، ولو كان غير مقصود، أعطى الحدثين بعداً أكثر أهمية، بحسب تحليل الكاتب والمحلل السوري عبد الله سليمان علي، حيث يبدو موضوع التوقيت أمراً تفصيلياً أمام الإطار الإستراتيجي الذي حصلت فيه تفجيرات لبنان وتركيا، ومن المتوقع أن يتعزز بتفجيرات أخرى قد تضرب بلداناً مختلفة،
وبينما تؤكد التحقيقات الجارية في كل من بيروت وأنقرة ، على أن التفجيرات التي استهدفت الدولتين هي من تدبير تنظيم “داعش”، ومع توافر معلومات عن الأشخاص المنتحرين تثبت على الأقل أنهم جميعاً ينتسبون للتنظيم والعمل لمصلحته. لذلك قد لا يكون إقرار التنظيم بتنفيذ هذه التفجيرات من عدمه موضع اهتمام، وفقا لتقرير صحيفة السفير اللبنانية، خصوصاً أن “داعش”، لأسباب معينة تعود إلى طبيعة علاقاته الخاصة مع الاستخبارات التركية التي قامت في مراحل كثيرة على أساس التخادم وتقاطع المصالح وأحياناً المصلحة المشتركة، تجنّب حتى الآن تبني بعض التفجيرات التي استهدفت تركيا سابقاً، وأكدت التحقيقات التركية ضلوع عناصر التنظيم بتنفيذها.
ويرى خبراء أمنيون، أن هذه العمليات الانتحارية المكثفة، تشير بوضوح إلى أن تنظيم داعش قطع شوطاً بعيداً في عملية التحول داخلياً من “دولة” إلى “جماعة”، أو الانتقال العكسي من مرحلة التمكين إلى مرحلة النكاية، مع ملاحظة أن التنظيم نفسه لم يلجأ إلى هذا التحول عندما دحرته “صحوات العشائر” في العراق بالتعاون مع القوات الأميركية بعد العام 2007، فلم يُسَجل في الأعوام التي أعقبت هزيمته المدوية تلك أنه قام بتنفيذ أي عملية خارجية رداً على هذه الخسارة .. ولكن التحول الجديد عبر عنه المتحدث الرسمي باسم «داعش» أبي محمد العدناني في خطابه الأخير حول عدم أهمية “خسارة الأرض”، وأن المهم هو “إرادة القتال”، ومما يرسم سياسة التنظيم وطبيعة توجهاته.
ولا يعني ذلك، بأي حال من الأحوال، أن التنظيم سيتخلى طواعية عن الأراضي التي يسيطر عليها، بحسب تحليل عبد الله سليمان ، بل سيقاتل بشراسة للاحتفاظ بأي جزء منها، وقتاله في منبج قد يكون دليلاً على ذلك، لأن التنظيم يراهن على تغيير الظروف المحلية والإقليمية وإمكان الاستفادة منها لإبقاء «دولته». ولأنه أيضاً يحتاج إلى وقت لاستكمال عملية التحول التي تحتاج إلى بنية تحتية وأساليب عمل مختلفة، وكذلك من أجل إقناع «حاضنته» ومناصريه وفروعه في البلدان الأخرى بضرورة هذا التحول وفوائده على «مسيرة الجهاد»، التي يطرح التنظيم نفسه كزعيم لها على مستوى العالم.
ويكشف تقرير السفير اللبنانية، أن تنظيم «داعش» في ظل التغيير الإستراتيجي لطبيعة نشاطه المستقبلي أصبح لديه خطة طويلة الأمد تقضي باستهداف الأقليات الدينية، تمهيداً لزرع بذور الفتنة بين مكونات المجتمع الواحد، وهو ذاته الهدف من وراء تفجيرات القاع وطرطوس وجبلة، وكذلك من وراء الاستهداف المتكرر لمنطقة السيدة زينب في ريف دمشق. لكن الأمر في تركيا مختلف، فالتنظيم لا يسعى إلى الفتنة هناك، لسبب بسيط هو أنه لا يعتبر الأراضي التركية مكاناً للإقامة والاستقرار فيه، بل هي معبر وعمق لوجستي. والتنظيم لا يحتاج إلى الفتنة إلا لخلق جو الفوضى المناسب لنموه وتأمين بقائه.
أما تفجيرات مطار اسطنبول، فهي تعد نقلة نوعية في عمليات التنظيم ضد تركيا، فالعمليات السابقة التي اتُّهم التنظيم بارتكابها استهدفت بمجملها (وهي سبعة تفجيرات) أهدافاً كردية أو بعض تجمعات السياح الأجانب، ولكن هذه المرة استهدف، وللمرة الأولى، مؤسسة رسمية تركية، أي أن الهدف هو الدولة والحكومة التركيتان. وثمة احتمالان لتفسير ذلك:
إما أن التنظيم ما زال يراهن على إمكان استعادة الدفء في علاقته مع جهاز الاستخبارات التركي الذي كان يغض الطرف عن نشاطه طوال الأعوام السابقة، خصوصاً أن «داعش» أصبح على وشك الاختناق بعد قطع غالبية خطوط التواصل والإمداد بينه وبين الحدود التركية، وبالتالي هو يرسل رسالة إلى السلطات التركية بأنها ستدفع الثمن إذا تواطأت مع أعدائه على عزله وخنقه، بحسب تحليل عبد الله سليمان علي ، وإما أن يكون هناك اختراق أمني (محلي أو إقليمي أو دولي) لخلايا التنظيم المسؤولة عن نشاطه في تركيا، وأن بعض الدول تستغل هذا الاختراق لتوسيع الهوة بين تركيا وبين التنظيم، ومنع إعادة الوضع بينهما إلى حالة الدفء السابقة، بل وإعطاء أنقرة ذرائع للذهاب بعيداً في معاداة التنظيم تمهيداً لتحرك ما ضده داخل الأراضي السورية.
المصدر: وكالات