بقدر ما تعبر دار الأوبرا المصرية كصرح ثقافي-فني عن معاني وتجليات القوة الناعمة ودعم وشائج التواصل مع الدول الشقيقة والصديقة فانها تنهض بدور مهم في تعزيز ثقافة التنوير في الداخل.
وفي سياق الاحتفالات بمرور 62 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين الشعبية تقدم فرقة اوبرا القاهرة اعتبارا من اليوم “الأربعاء” عروضا بهذه الدولة الصديقة فيما كانت رئيس قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة الدكتورة هبة يوسف قد نوهت بأن “المشتركات الثقافية والتاريخية” بين مصر والصين أسهمت في دعم العلاقات بين الدولتين.
والعروض التي تقدمها فرقة أوبرا القاهرة بمدينة “شنج دو” الصينية تستمر حتى الثامن من شهر أغسطس الجاري فيما كانت العاصمة السعودية الرياض قد استضافت حفلين لفرقة الموسيقى العربية التابعة لدار الأوبرا المصرية في شهر أبريل الماضي عرضت خلالها أجمل المقطوعات الموسيقية لكبار الفنانين المصريين ثم قدمت هذه الفرقة عدة حفلات خلال شهر يوليو الماضي في اربع مدن بالمملكة العربية السعودية الشقيقة وهي ابها وجدة والطائف والدمام لتعبر ن قوة الوشائج الثقافية بين شعبي البلدين الشقيقين.
وبالتوازي مع الأنشطة والحفلات التي تقدمها دار الأوبرا المصرية بفرقها المتعددة في الخارج فانها تنهض بدور مهم في تعزيز ثقافة التنوير في الداخل وبما يثري المشهد الثقافي المصري على مدار العام.
وتنظم دار الأوبرا الدورة السابعة والعشرين لمهرجان قلعة صلاح الدين الدولي للموسيقى والغناء التي تبدأ غدا “الخميس” وتستمر حتى السابع عشر من شهر أغسطس الجاري فيما نوه رئيس دار الأوبرا مجدي صابر بأن هذا المهرجان حصل لأول مرة هذا العام على “الشارة الدولية”.
والدورة الـ27 لمهرجان قلعة صلاح الدين الدولي بمسرح “محكى القلعة” تتضمن 37 حفلا غنائيا يشارك فيها فنانون من تونس وسوريا وفلسطين والصين والمكسيك وبنما جنبا الى جنب مع نجوم الغناء في مصر مثل الفنان هاني شاكر الذي يستهل الحفلات الغنائية لهذا المهرجان الفني الكبير بحضور وزيرة الثقافة ايناس عبد الدايم كما يتضمن الحفل الافتتاحي عرضاً لفرقة الشباب والأطفال الصينية.
والمهرجانات مفيدة في التعرف على اذواق الجمهور والتعامل معها كما قالت الدكتورة ايناس عبد الدايم التي أوضحت من قبل ان الأوبرا لديها برنامج يمتد طوال العام فيما تتنوع العروض مابين الأوبرا والباليه والأوركسترا السيمفوني والكورال والرقص الحديث والموسيقى العربية.
وعلى مسارحها بالقاهرة والأسكندرية ودمنهور ، كانت دار الأوبرا قد قدمت احتفالات فنية واغاني وطنية في الذكرى الخامسة لثورة 30 يونيو وبما أعاد للأذهان حضور هذا الصرح الثقافي الثقافي الفني في مختلف الأحداث المهمة التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة كمؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري في مدينة شرم الشيخ.
وتقدم دار الأوبرا المصرية عبر مشاركتها في هذه الأحداث والفعاليات اجابات هامة على اسئلة تتعلق بالفن والمجتمع والقوة الناعمة وتضفي أجواء احتفالية من المتعة الراقية بقدر ما يبرهن الحضور الكبير في حفلاتها على تجاوب الجمهور مع الذوق الفني الرفيع و العروض الفنية تحمل رسالة مصر المبدعة بفنونها وثقافتها المتنوعة والثرية للعالم قاطبة.
وفي الأونة الأخيرة تتجه دار الأوبرا “لكسر الطابع النخبوي الضيق” وتطرح امكانية تقديم روائع الموسيقى والغناء للشعب المصري بكل أطيافه وشرائحه ناهيك عن الضيوف الأجانب والارتقاء بالذوق العام للمجتمع ودحر ثقافة القبح والتلوث السمعي-البصري فيما ترى الدكتورة ايناس عبد الدايم الأوبرا كمنارة ثقافية يلتف حولها كل المصريين لافتة الى الاسهام الثقافي الفني في تنشيط الاقتصاد المصري.
ولئن قالت ايناس عبد الدايم التي شغلت من قبل منصب رئيس دار الأوبرا إن الثقافة والفنون يتعدى دورهما مجرد الترفيه للمساهمة في بناء الانسان المصري ، فواقع الحال ان حفلات الأوبرا على وجه العموم في الأونة الأخيرة باتت تحظى باقبال كبير وتأتي هذه الظاهرة رغم ان بعض المثقفين ذهبوا من قبل الى ان فن الأوبرا هو “فن نخبوي بطبيعته ومع ذلك له جمهوره العريق في مصر التي عرفت فن الأوبرا مبكرا للغاية منذ نحو قرن ونصف القرن”.
واحتفالاً باليوم العالمي للموسيقى الذي يوافق الحادي والعشرين من شهر يونيو نظمت دار الأوبرا المصرية هذا العام مهرجاناً فنياً على مسارحها وساحاتها الداخلية فيما تجلى في تلك الاحتفالات اهتمامها بالشباب والأطفال باعتبارهم “نجوم المستقبل”.
وقال الدكتور مجدي صابر إن الاحتفال باليوم العالمي للموسيقى اصبح تقليداً تحرص عليه الأوبرا معيداً للأذهان أن فكرة هذا الاحتفال السنوي فرنسية المولد ظهرت عام 1981 وانتقلت الى بقية انحاء أوروبا ثم بات الاحتفال بالموسيقى عالميا لدعم التقارب والتواصل بين مختلف الشعوب.
واذا كانت الموسيقى لغة الشعوب في العالم والتاريخ قصة هذه الشعوب فان فكرة اللقاء بين الموسيقى والتاريخ تتجسد في كتاب “التاريخ والموسيقى” للدكتور محمد عفيفي الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة القاهرة والمؤلفة الموسيقية الدكتورة نهلة مطر التي اشتركت معه في تحرير هذا الكتاب الذي يتضمن مجموعة دراسات شيقة لنخبة من الباحثين.
فالموسيقى والتاريخ ينتميان كمجالين ثقافيين للنشاط الفكري الانساني ، ومن هنا يرصد كتاب الدكتور محمد عفيفي والدكتورة نهلة مطر العلاقة بين الموسيقى كفن وكتابة التاريخ والقضايا الاجتماعية والثقافية المتصلة بأثر الموسيقى في المجتمع المصري على مدى القرنين الماضيين فيما يوضح الدكتور عفيفي ان الكتاب في اصله دراسة تنطلق من مدخل التاريخ الاجتماعي للموسيقى في مصر.
والكتاب ثمرة لقاء ثقافي مدهش بين التاريخ والموسيقى او بين المؤرخين والموسيقيين ويحلق بسلاسة في افاق جديدة بمعالجات غير تقليدية لقضايا تاريخية مثل لقاء الموسيقى الشرقية مع الموسيقى الغربية وانعكاسات هذا اللقاء والتواصل والتفاعل الثقافي على اذواق المصريين ناهيك عن الحداثة وتغير المجتمع المصري.
واذا كانت وزيرة الثقافة وعازفة الفلوت العالمية الدكتورة ايناس عبد الدايم قد تحدثت عن تعظيم دور صناعة الثقافة والموسيقى وأكدت على اهمية دور الفن في انارة العقول وتنمية الوعي الثقافي لمقاومة الفكر المتطرف ومواجهة قوى الشر والظلام ودحر الارهاب فان اقبال المصريين على العروض الفنية الجادة والممتعة يبرهن على سوية الذائقة العامة .
وترى الوزيرة ايناس عبد الدايم ان الموسيقى ليست مجرد ترفيه للجمهور “ولكنها مهمة وطنية تغرس القيم النبيلة في أبناء المجتمع على اختلاف شرائحهم” ، وأكدت في مقابلة صحفية أهمية “ما تقدمه كتيبة الأوبرا” . موضحة ان الهدف “توصيل ارقى الفنون بالشكل الصحيح وعلى أوسع نطاق للناس في كل مكان”.
وتحظى أاعمال الأوبرا باهتمام كتاب ومعلقين من أصحاب الاهتمامات الثقافية أبدوا إعجابه بعرض مثل أوبرا عايدة على المسرح الكبير لدار الأوبرا معيدين للأذهان ان فن الأوبرا عريق ويرجع تاريخه في ايطاليا الى اواخر القرن السادس عشر فيما تمنى بعضهم ان تتزايد اعداد دور الأوبرا في مصر.
ويصف الكاتب الصحفي الدكتور عمرو عبد السميع الأوبرا “بالمنبر التثقيفي والتنويري رفيع المقام” مشيدا بالعروض الرائعة للأوبرا المصرية منذ أن كانت بقيادة الدكتورة ايناس عبد الدايم ومعتبراً أن بعض العروض تحولت الى “شلال من البهجة والحيوية البالغة”.
أما الكاتب الصحفي والمعلق الدكتور أسامة الغزالي حرب فيدعو لاقامة دار للأوبرا في عاصمة كل محافظة مصرية مؤكدا أنها “لن تشع الثقافة والتنوير فقط ولكنها أيضا سوف تسهم في تفجير مواهب وابداعات اكبر بكثير مما نتصور”.
وأشارت الدكتورة ايناس عبد الدايم الى تحرك لاقامة دار اوبرا في الأقصر بتعاون مصري-صيني مؤكدة أهمية تقديم حفلات في صعيد مصر فيما كان من بين الأفكار التي تضمنها مشروع المنظومة الثقافية إقامة “سوق دولية للفنون المصرية بمنطقة الأوبرا على غرار معرض القاهرة الدولي للكتاب”.
ويأمل بعض المثقفين اهتماماً أكبر من جانب وسائل الاعلام وخاصة التلفزيون بعالم الأوبرا فيما يسترجع البعض بالحنين برنامجا تلفزيونياً عن الأوبرا كان يقدمه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي الفنان الراحل يوسف السيسي أحد قادة أوركسترا القاهرة السيمفونية مع أن هذا البرنامج لم يستمر طويلا.
وكانت عبد الدايم قد سعت لوضع برنامج الأوبرا على الخارطة السياحية المصرية ووصفت دار الأوبرا “بالمشروع القومي” منوهة بأن “لدينا مواهب غير طبيعية في العزف وثقتها بلا حدود في قدرات الفنانين الشباب” .
ودور الأوبرا والمسارح الكبرى في العالم تقدم دوما ايقونات فنية وثقافية خالدة مثل راقصة الباليه الروسية مايا بيلتسيكايا التي قضت في الثاني من مايو عام 2015 عن عمر يناهز ال89 عاما وكانت توصف بأنها “ايقونة مسرح البولشوي واشهر راقصة باليه في العالم” وقدمت وهي في الثمانين من عمرها رقصة شهيرة بقصر الكرملين امام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولن تنسى الأوبرا أسماء مثل المايسترو أحمد الصعيدي والفنانة أرمينيا كامل فيما تحظى أوركسترا اوبرا القاهرة التي يقودها ناير ناجي بمكانة عالية لدى عشاق الفن الموسيقي الكلاسيكي الرفيع المستوى فيما كشف ناجي عن اعجاب عالمي بأغاني عبقري الموسيقى المصرية سيد درويش بينما يعرب مثقف مصري اخر هو الدكتور عبد الرشيد محمودي عن شعوره بالفخر “لأن دار الأوبرا المصرية كما نراها الآن تستند الى تراث موسيقي عريق يرجع الى القرن التاسع عشر عندما بنت مصر دار الأوبرا القديمة وسبقت بها كثيرا من بلدان العالم الى اقتناء الموسيقى الكلاسيكية الغربية”.
وارتبط تأسيس الأوبرا القديمة بافتتاح قناة السويس وافتتحت في الأول من نوفمبر عام 1869 لتون الأولى في قارة افريقيا فيما تولى رئاستها شخصيات ثقافية وفنية رائدة مثل الفنان سليمان نجيب والشاعر عبد الرحمن صدقي والفنان التشكيلي صلاح طاهر.
ومع التأسيس الثاني للأوبرا في عام 1988 بعد ان احترقت الأوبرا القديمة في فجر الثامن والعشرين عام 1971 تولت الموسيقية الكبيرة الدكتورة رتيبة الحفني رئاسة هذا الصرح الثقافي الفني لتتوالى أسماء شخصيات ثقافية وفنية شغلت المنصب ذاته مثل الدكتور ناصر الأنصاري والدكتور مصطفى ناجي والدكتور سمير فرج والدكتور عبد المنعم كامل وصولا للدكتورة ايناس عبد الدايم ثم الدكتور مجدي صابر.
ويقول الرئيس الأسبق لدار الأوبرا المصرية الدكتور سمير فرج أنه قرر منذ الأسبوع الأول في هذا المنصب الخروج بالأوبرا للشعب ليعرفه بهذا النوع من الفن الراقي ومن هنا قرر خروج “الأوبرا الى الجامعات في مختلف ربوع مصر وخاصة في في محافظات الصعيد لتقديم عروض الأوبرا على مسارحها” مؤكدا على أن دار الأوبرا المصرية التي يصفها بالصرح الثقافي والفني الكبير هي “واجهة مشرفة لمصر وللعالم العربي ومازال يضع مصر على قمة القوى الناعمة في دول المنطقة” .
وإذ ينوه بازدهار الفريق السيمفوني والفريق الغنائي الأوبرالي في حفلات الأوبرا المصرية التي حضرها يضيف الكاتب والناقد عبد الرشيد محمودي :”اصبح لدينا فنانون يمارسون ذلك الفن عن معرفة وثيقة بأعمال اعلامه الخالدين مثل بتهوفن وموتسارت وفردي وبوتشيني وسائر الفنانين الناطقين بلغة الموسيقى الكلاسيكية”.
وفيما عرضت دار أوبرا القاهرة أعمالاً مهمة منذ مطلع العام الحالي مثل باليه “بحيرة البجع” للمؤلف الموسيقي الروسي الشهير بيتر تشايكوفسكي فان الروائي الروسي العملاق ديستوفيسكي عمد في روايته “نيتوشكا نزفانوفا” لتوظيف علاقة “الداخل الانساني والأنغام” في هذا العمل الروائي الابداعي حيث يتحول “الكمان” للذات الداخلية المرجوة وتتحول الآلات الموسيقية لرموز واذا بلغة الأنغام هي اللغة الانسانية الأعمق.
ويرى الدكتور عبد الرشيد محمودي وهو باحث دؤوب في الفلسفة أن الموسيقى الكلاسيكية “اقرب الفنون الى الفلسفة من حيث الرغبة في التوصل الى وعي شامل بالكون ومكان الانسان فيه” لافتاً الى ان الاهتمام بهذه الموسيقى “ليس من شأنه التأثير سلباً على موسيقانا الشرقية أو النيل من مكانتها بل لعله أسهم في الازدهار الذي عرفته في القرن العشرين”.
والأن وفي تلك الأيام من القرن الواحد والعشرين تتحرك دار الأوبرا المصرية على مدارات ثقافية وفنية تعبر حقاً عن رسالة مصر الخالدة لتكتب صفحات مضيئة في سجل صرح عظيم وتكشف عن مواهب ليكون الزمن الطالع بابا واسعا للابداع وموائد الفن الجميل !.
المصدر: أ ش أ