يضفي تفاقم الوضع العسكري في شمال إثيوبيا بين قوات دفاع تيجراي والقوات الحكومية وحلفائها المزيد من التعقيد على المشهد الإثيوبي برمته، خاصة أن هذه الجولة الجديدة من الحرب تعكس إصرار طرفي الصراع على تحقيق أهدافهما من خلال الحسم العسكري بعيدًا عن طاولة المفاوضات، والتي كانت بالأساس هي سمة أساسية في الحرب الأولى التي اندلعت منذ نوفمبر 2020، الأمر الذي يثير تساؤلات حول حسابات ومصالح الأطراف المنخرطة في الحرب الإثيوبية الجارية، وسط دور خافت للموقف الدولي في تسوية الصراع والضغط على جميع الأطراف لإنهاء القتال في شمال البلاد، وهو ما يجعل مستقبل الصراع الإثيوبي مفتوحًا على كل السيناريوهات خلال الفترة المقبلة.
تشهد الحرب الإثيوبية تصعيدًا في ميدان القتال على مدار الأيام الستة الماضية منذ تجددها في 24 أغسطس الجاري (2022)، وهي التي وصفها غيتاتشو رضا، المتحدث الرسمي باسم جبهة تحرير تيجراي، بأنها “حرب دفاعية” في ضوء اتهام الجبهة للحكومة الإثيوبية بالتورط في البدء بالهجوم على إقليم تيجراي شمالي البلاد.
وتقوم استراتيجية قوات دفاع تيجراي على الدفاع عن الإقليم وصد هجوم القوات الحكومية والقوات الخاصة بإقليم أمهرة ومليشياتها التي رصدت تقارير احتشادها في منطقة كوبو Kobo جنوبي إقليم تيجراي قبل بدء الحرب بيوم، ثم التحول إلى شن هجوم مضاد ضد القوات الحكومية لطردها من جنوب تيجراي، وذلك بهدف كسر الحصار المفروض عليها من قبل الحكومة الفيدرالية منذ بدء الصراع.
كما تحرص جبهة تحرير تيجراي على قتال القوات الإثيوبية خارج إقليم تيجراي، حيث شرعت قوات دفاع تيجراي في فتح جبهتين للقتال في إقليمي أمهرة وعفر، وتقدمت نحو الجنوب بعمق 50 كيلومتر داخل إقليم أمهرة، واستولت على 8 بلدات، بالإضافة إلى السيطرة على بعض المناطق في جنوب شرق عفر مثل منطقة يالو؛ وهو ما دفع القوات الحكومية إلى تدمير جسر “الهواها ملاش” شمال مدينة كوبو بهدف إيقاف تقدم قوات دفاع تيجراي جنوبًا نحو أمهرة قبل الانسحاب من بعض المناطق بما في ذلك كوبو بزعم تجنب سقوط المزيد من المدنيين. فيما أعلنت حكومة إقليم أمهرة الاستنفار بسبب تقدم مقاتلي تيجراي نحوه، وأعلنت بعض المدن في الإقليم مثل وولديا حظر التجول فيها.
ولا يزال الموقف الإريتري يتسم بالغموض منذ تجدد القتال في شمال البلاد، فلم تُشر أي تقارير إلى تورط القوات الإريترية في الصراع حتى الآن، بالرغم من استمرار تواجد حشود عسكرية إريترية عند الحدود الشمالية بين إقليم وتيجراي وإريتريا، فضلاً عن وجود بعض القوات الإريترية بإقليم أمهرة في ضوء التقارب الواضح بين إدارة الإقليم والرئيس الإريتري أسياس أفورقي. وربما يظل الدور الإريتري غامضًا برغم احتمالية تورطه في الصراع الدائر حاليًا هناك، وذلك خوفًا من الانتقادات الدولية التي ربما تتطور إلى فرض عقوبات جديدة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية على النظامين الإريتري والإثيوبي.
وفي سياق متصل، تسعى الحكومة الإثيوبية إلى تصدير صورة للمجتمع الدولي بحرصها على دعم السلام في شمال إثيوبيا، حيث أعلنت تمسكها بوقف إطلاق النار والالتزام بالهدنة الإنسانية التي أعلنتها من جانب واحد في مارس 2022، وحرصها على عدم خوض حرب جديدة ضد جبهة تحرير تيجراي، وهو ما قد توظفه في الترويج لصدق روايتها بخرق جبهة تحرير تيجراي للهدنة الإنسانية في الإقليم وتورطها في تجدد القتال هناك. ويدعم ذلك مطالبة يبتال أميرو، السفير الإثيوبي لدى السودان، الحكومة السودانية في 29 أغسطس الجاري (2022) بالضغط على جبهة تيجراي من أجل البدء في مفاوضات السلام لتسوية الصراع. إضافة إلى زيارة آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، إلى الجزائر في خضم تصعيد الحرب الإثيوبية في شمال البلاد، والتي قد تعكس حرص أديس أبابا على تصوير الأمر بأنه لا توجد أزمة في البلاد خوفًا من الضغوط الدولية عليها من أجل تسوية الصراع في أسرع وقت.
يبدو أن حسابات أطراف الصراع الإثيوبي لم تتغير منذ الحرب الأولي التي اندلعت في نوفمبر 2020 برغم تباينها. وربما يزيد إصرار كل طرف على تحقيق أهدافه خلال الجولة الحالية من الصراع خاصة في ظل تأكيد كل من الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي جاهزية قواتهما لخوض المعركة العسكرية، مما قد يعكس إعادة تنظيم الصفوف وتعزيز الدعم اللوجستي لكلا الطرفين، وهو ما ينذر بصراع محتدم قد يطول أمده، ويؤثر سلبًا على وحدة واستقرار الدولة الإثيوبية خلال الفترة المقبلة.
ويمكن الإشارة إلى تباين حسابات أطراف الصراع الإثيوبي سواء المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر على النحو التالي:
1- جبهة تحرير تيجراي: تدخل الجبهة هذه الحرب لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية على رأسها فك الحصار المفروض عليها من قبل الحكومة المركزية منذ أكثر من ثمانية أشهر مضت لمنع تفاقم الأوضاع الإنسانية في الإقليم. بالإضافة إلى إصرارها على استرداد أراضيها التي استولت عليها إدارة إقليم أمهرة في غرب تيجراي منذ نوفمبر 2020. فضلًا عن حرص الجبهة على تفكيك التحالف الرئيسي ضدها المكون من الحكومة المركزية بقيادة آبي أحمد ونخبة أمهرة والقوات الإريترية، وذلك من خلال فتح جبهات متعددة للقتال خارج إقليم تيجراي من أجل استنزاف القدرات العسكرية لخصومها واستعراض قوتها العسكرية لفرض حالة من الردع لدى خصومها، مما يعزز حالة السخط الشعبي ضد آبي أحمد لا سيما في إقليم أمهرة المنقسم حول تأييده خلال الفترة الأخيرة، بما يعني تهديد شعبيته ومكانته على الصعيد الداخلي التي ربما تنعكس سلبًا على صورته لدى المجتمع الدولي.
وتسعى جبهة تيجراي إلى لعب دور مهم في المعادلة السياسية في الداخل الإثيوبي، وهو ما يمنحها القوة للوقوف في وجه مشروع آبي أحمد السياسي الذي يتمحور حول إلغاء الفيدرالية الإثنية في البلاد لصالح نظام أكثر مركزية تؤول معظم السلطات لآبي في مقابل تقليص سلطات الأقاليم الإثيوبية. فضلاً عن مساعيها لتصبح عقبة كؤود أمام أي محاولات لقومية أمهرة من أجل العودة للسلطة في المستقبل، خاصة أن لدى نخبة تيجراي تطلعات قوية لاستعادة حكم البلاد عقب الإطاحة بنظام آبي أحمد من البلاد.
ومع استمرار التصعيد في المشهد العملياتي شمالي البلاد، ربما تضطر جبهة تحرير تيجراي إلى توسيع دائرة المواجهات مع الحكومة المركزية من خلال تحريك بعض الحركات المسلحة الإثيوبية الحليفة لها مثل جيش تحرير أورومو وجبهة تحرير جامبيلا لفتح جبهات جديدة في بعض الأقاليم الإثيوبية بهدف تشتيت انتباه القوات الحكومية، فضلاً عن إشعال الوضع في منطقة الفشقة المتنازع عليها بين إثيوبيا والسودان لتوريط أمهرة في أكثر من جبهة للقتال، مما قد يعزز التفوق العسكري لقوات دفاع تيجراي، وربما تمهيدًا للتقدم نحو العاصمة أديس أبابا وإسقاط نظام آبي أحمد، ما لم يحظ بمساندة ودعم دولي وإقليمي يغير المعادلة العسكرية في هذه الحرب الدائرة.
2- الحكومة الإثيوبية: بعدما أخفق آبي أحمد في تحقيق أهدافه في الحرب الإثيوبية الأولى لا سيما إقصاء جبهة تحرير تيجراي من المشهد السياسي الإثيوبي، يبدو أن لديه إصرار على حسم الصراع عسكريًا دون الدخول في مفاوضات سياسية مع قادة الجبهة. وربما هذا ما دفعه إلى إطلاق جولة جديدة من الحرب على إقليم تيجراي، بالرغم من عدم قدرته على مجاراة قوات دفاع تيجراي سوى بالدعم اللوجستي من بعض الأطراف الإقليمية التي أنقذته بالطائرات من دون طيار (الدرونز)، والتي لعبت دورًا بارزًا في تراجع قوات دفاع تيجراي عن التقدم نحو العاصمة أديس أبابا في نوفمبر/ديسمبر 2021. ومع ذلك، لن تستطيع القوات الحكومية حسم هذا الصراع عسكريًا بمفردها نظرًا لضعف قدراتها العسكرية والقتالية، وعدم درايتها بالطبيعة الجغرافية في شمال البلاد، في مقابل تطور القوة العسكرية والقتالية لمقاتلي قوات دفاع تيجراي وخبراتهم السابقة في حرب العصابات وغيرها في المناطق الجبلية.
ويبدو أن وضع آبي أحمد في هذه الحرب معقدًا، فهو ليس لديه ثقة في قواته الحكومية التي لم تحرز انتصارًا حقيقيًّا في الحرب الأولى قبل إعلان الهدنة الإنسانية منذ خمسة أشهر. كما أنه يخشى انقلاب حليفيْه الرئيسيْن عليه -قومية أمهرة والرئيس أفورقي-في حالة دعوة جبهة تيجراي للحوار الوطني والمفاوضات لتسوية الصراع، لا سيما أنهما يرفضان أي تقارب مع الجبهة في ظل حالة العداء التاريخي خلال فترة حكم تيجراي للبلاد منذ عام 1991. كما أن استمرار هذه الحرب واحتمالية دعوته للتعبئة العامة في أنحاء البلاد -وهي ليست المرة الأولى- من شأنه أن يعقد الوضع السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد التي تشهد تراجعًا اقتصاديًّا منذ بدء الصراع في نوفمبر 2020، وهو ما قد يترتب عليه تزايد حالة الاستقطاب في المشهد العام الذي يتسم بدوره بالاضطراب.
وقد تُحقق هذه الحرب بعض الأهداف لآبي أحمد -في حالة حسمه لها- مثل فرض شروطه في الحوار الوطني المحتمل انعقاده، واحتمالية استبعاد جبهة تحرير تيجراي -في حالة وقف الحرب الجارية أو هزيمتها- إضافة إلى تأليب آبي أحمد الرأي العام على جبهة تيجراي، في ضوء اتهامه لها بأنها تنظيم إرهابي وتربطها علاقات مع بعض الأطراف الإقليمية المعادية لإثيوبيا.
ومع تطورات الصراع في شمال إثيوبيا، قد يستعين آبي أحمد بحلفائه الإقليميين والدوليين لدعمه لوجستيًّا وسياسيًّا لتحقيق تفوق -وربما حسم- عسكري على جبهة تحرير تيجراي مثلما شهدت الحرب الإثيوبية الأولى في الفترة بين نوفمبر 2020 وديسمبر 2021.
3- قومية أمهرة: تتوافق رؤية أمهرة مع كل من رئيس الوزراء آبي أحمد والرئيس أسياس أفورقي حول ضرورة القضاء على جبهة تحرير تيجراي باعتبارها حجر عثرة أمام طموحات الأطراف الثلاثة في الداخل الإثيوبي، وهو ما دفعها نحو التحالف معهما استعدادًا لشن هجوم على إقليم تيجراي والانخراط في الصراع الدائر منذ نوفمبر 2020. وذلك بالرغم من تخوفها من توغل جديد لقوات دفاع تيجراي للعمق في أمهرة، والسيطرة على المدن الرئيسية هناك.
ومع ذلك، تتزايد مخاوف نخبة أمهرة من تحقيق السلام بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيجراي، الأمر الذي قد يترتب عليه عودتها للمشهد السياسي الإثيوبي وانخراطها في المعادلة السياسية في البلاد، وما قد يصاحبه من استعادة نفوذها السياسي والاقتصادي هناك، ويضمن لها الضغط على أمهرة لاسترداد المناطق التي استولت عليها الأخيرة.
كما تدرك أمهرة أن إقصاء تيجراي من الخريطة السياسية في إثيوبيا تعد فرصة جيدة بالنسبة لها للقيام بدور سياسي أكبر في البلاد واكتساب المزيد من الشرعية السياسية التي ربما تمهد لها الطريق للعودة مجددًا إلى الحكم في أديس أبابا. وبالتالي هي تحاول حسم الصراع مع تيجراي عسكريًا وليس سياسيًا لسد الطريق أمام أي اتفاق بين آبي أحمد وقادة تيجراي قد يترتب عليه تغيير موازين القوة في الداخل الإثيوبي.
4- إريتريا: لدى الرئيس أفورقي مخاوف عدة من تمدد جبهة تحرير تيجراي في العمق الإريتري والقضاء على النظام الحاكم في البلاد بدعم من تيجراي-أسمرة تمهيدًا للإعلان عن دولة تيجراي الكبرى التي تمثل حلمًا لدى قادة تيجراي منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما دفع أفورقي للتورط في الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي، واستمرار حشد وانتشار أعداد كبيرة من القوات الإريترية على طول الحدود مع الإقليم، بالإضافة إلى التقارب الاستراتيجي مع إقليم أمهرة من أجل محاصرة تيجراي من معظم الجهات بالتعاون مع الحكومة الإثيوبية.
إذ يضمن التخلص من جبهة تحرير تيجراي لأفورقي إحكام السيطرة بشكل أكبر وأقوى على الداخل الإريتري، والإطاحة بحلم دولة تيجراي الكبرى، كما يسمح بطرد المعارضة الإريترية المتواجدة في إقليم تيجراي من المنطقة كي لا تشكل تهديدًا لأمن واستقرار النظام الحاكم في أسمرة.
ويدرك أفورقي أن استمرار حالة الحرب في إثيوبيا يضمن استنزاف القدرات العسكرية لقوات دفاع تيجراي بحيث لا تستطيع القيام بهجمات في العمق الإريتري، كما أنها تسهم في استمرار حالة عدم الاستقرار في الداخل الإثيوبي، مما يسمح لأفورقي بتعزيز نفوذه في الداخل الإثيوبي في ضوء تقاربه مع آبي أحمد وبعض الفاعلين الأساسيين هناك مثل أمهرة.
5- المجتمع الدولي: لم يكن الموقف الدولي قويًّا تجاه الصراع الإثيوبي منذ لحظة اندلاعه في عام 2020، باستثناء بعض العقوبات الأمريكية التي فُرضت على النظامين الإثيوبي والإريتري في مراحل مختلفة من الصراع، وربما يُعزى ذلك إلى تضارب المصالح الدولية في إثيوبيا.
ومع تصاعد المخاوف من تصعيد الحرب خلال الفترة المقبلة، ربما لا يختلف موقف القوى الدولية عما كانت عليه خلال العامين الأخيرين ما لم يتطور الصراع ليهدد المصالح الدولية الاستراتيجية في منطقة القرن الأفريقي. وربما يصبح الصراع ساحة مواجهة جديدة بين الولايات المتحدة والصين وربما روسيا، خاصة في ظل تباين مواقف هذه الأطراف من الحرب في إقليم تيجراي منذ اندلاعها، واستمرار توتر العلاقات الأمريكية-الإثيوبية والأمريكية-الإريترية في مقابل التقارب الصيني-الإثيوبي، إلى جانب عدم ثقة آبي أحمد في المبادرات الغربية لا سيما الأمريكية، وهو ما قد يفاقم الصراع ويهدد مستقبل الدولة الإثيوبية وأمن واستقرار القرن الأفريقي ككل.
وإجمالًا، تظل تسوية الصراع الإثيوبي مرهونة بالإرادة السياسية لنظام آبي أحمد في إجراء حوار وطني شامل وجاد يستطيع معالجة سلسلة الأزمات في الواقع الإثيوبي بما في ذلك الصراع في تيجراي وإزالة مسبباته، والذي يتطلب تقديم العديد من التنازلات من جانب أطراف الصراع؛ مما يُسهم في تخفيف حدة الاستقطاب ويُعجّل بخريطة طريق تحمي إثيوبيا من الانزلاق في حالة الفوضى التي تهدد وحدتها، لا سيما أن استمرار وتصعيد الحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي ربما تدفع نحو سيناريوهات أكثر كارثية مثل الانفصال، أو الحرب الأهلية الشاملة في البلاد.
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية