مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، باتت الثقافة والأدب وشعارات حقوق الإنسان وحتى وقائع وأساطير التاريخ جزءا من تلك المواجهة المتعددة الجوانب والمثيرة للقلق لتدور رحى حرب ثقافية وتشتعل بين الجانبين.
وفيما أطلقت الصين حملة دعائية ضخمة معتبرة “الولايات المتحدة عدوة العالم” تحفل الصحافة الثقافية الأمريكية والغربية ككل بطروحات وعروض لكتب مناوئة للنظام الحاكم في بكين بينما انتهزت فرصة حلول الذكرى الثلاثين “لأحداث ساحة تيانانمين” التي قتل فيها عدد كبير من المحتجين الصينيين.
وها هي دورية (نيويورك ريفيو) الأمريكية والمعنية بالقضايا الثقافية تفرد مساحات كبيرة لذكرى أحداث تيانانمين الدموية ورغم أن هذه الدورية توصف بأنها “ذات مضمون ثقافي رفيع المستوى” فإنها اتجهت بوضوح “للتوظيف السياسي لتلك الذكرى الحزينة بغرض النيل من النظام الحاكم في الصين”.
وفي هذا السياق اتهم الكاتب إيان جونسون السلطات الصينية بمطاردة الأكاديميين والمثقفين المستقلين عن الحزب الشيوعي الحاكم مستعيدا ذكرى أحداث تيانانمين التي وصفها “بنهاية الأسبوع الأسود وواحدة من أكثر الأحداث قبحا في التاريخ الصيني”.
واعتبر جونسون أن العام الحالي هو “عام يتسم بحساسية خاصة في الصين حيث حلت الذكرى الثلاثين لأحداث تيانانمين كما تحل فيه الذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية” وكذلك الذكرى الـ 20 لما وصفه “بقمع السلطات الصينية لطائفة “فالون جونج”.
وهذه الطروحات والكتب الجديدة التي تبرزها الصحافة الثقافية الغربية تتضمن كتابات لمنشقين صينيين مثل “ما جيان” صاحب كتاب “غيبوبة بكين” والذي أفسحت له جريدة (الجارديان) البريطانية حيزا كبيرا لطرح بعنوان :”ناج من تيانانمين” .
وفيما يحمل كتاب “غيبوبة في بكين” رؤيته لأحداث تيانانمين بدا “ما جيان” حريصا في طرحه بمناسبة الذكرى الثلاثين لهذه الأحداث الدامية على مغازلة الثقافة الغربية وإظهار إعجاب المنشقين الصينيين بأسماء شهيرة لأدباء في الغرب مثل فيرجينيا وولف وكلود سيمون والين جينسبيرج بقدر حرصه على كيل الاتهامات للسلطات الصينية بقمع المبدعين وفرض قيود خانقة على حرية التعبير.
ولاريب أن الغرب يطرب لمثل هذه الاتهامات التي يوجهها منشقون صينيون للنظام الحاكم في بلادهم ويسعد بكلمات كتلك التي ذهب فيها “ما جيان” إلى أن النظام الحالي في بكين “يسعى لبناء قوة عظمى شمولية ذات اقتصاد متطور وعال التقنية تشكل خطرا جسيما على الديمقراطيات حول العالم” وأن أشياء مثل “الناتج المحلي الإجمالي أهم بكثير عند هذا النظام من الحياة الإنسانية”.
فأي شيء يمكن أن يسعد واشنطن في غمار حملتها التي تتصاعد ضد الصين أكثر مما يقوله هذا المنشق الصيني الذي لا يخفي رغبته في سقوط النظام الحاكم في بلاده وأن يأتي اليوم الذي تزال فيه صورة الزعيم التاريخي للثورة الصينية ماو تسي تونج و”مؤسس جمهورية الصين الشعبية”من ساحة تيانانمين بينما عمدت الإدارة الأمريكية “لتوظيف هذه الذكرى الحزينة لأحداث تيانانمين” في خضم توتراتها المتصاعدة مع الصين.
فقد دعا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في سياق ذكرى أحداث تيانانمين التي وقعت في قلب بكين يوم الرابع من يونيو عام 1989 السلطات الصينية “لإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين” ووجه التحية لمن وصفهم “بأبطال الشعب الصيني الذين وقفوا بشجاعة قبل 30 عاما في ساحة تيانانمين للمطالبة بحقوقهم”.
وفي المقابل ردت وزارة الخارجية الصينية بقولها إن وزير الخارجية الأمريكي “يشن هجوما خبيثا على النظام السياسي الصيني” مضيفة ان البعض في الولايات المتحدة “يتدخلون في شؤون الدول الأخرى بذريعة الديمقراطية وحقوق الانسان ويغضون الطرف عن مشاكل بلادهم” فيما اعتبرت أن الأمر “ينطوي على نفاق ودوافع شريرة”.
وإذا كانت المواجهة بين الولايات المتحدة والصين تتخذ أساسا طابع “الحرب التجارية” فمن الواضح أن واشنطن لم تشعر أبدا بارتياح حيال التقارير ودراسات البحثية المتوالية لمؤسسات مالية رائدة معنية باستراتيجيات النمو للأسواق تتحدث عن الصعود الصيني نحو القمة.
وعلى سبيل المثال ففي دراسة مستفيضة لمؤسسة برايس ووتر هاوس كوبرز الشهيرة بالاختصار “بي دبليو سي” بعنوان العالم في عام 2050 : هل سيستمر التحول في القوى الاقتصادية العالمية” أكد الباحثان جون هوكسورث وداني شان، أن الصين ستكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم لتتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذ تنتقد الصين ما تصفه “بالتنمر التجاري الأمريكي” يهدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض المزيد من القيود على السلع الصينية وليس ببعيد تلك العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول أخرى في الغرب على شركة “هواوي” التي توصف “بدرة التاج الصيني في عالم تقنيات الاتصالات” لتصل تلك العقوبات لدرجة “الحظر على أنشطة هذه الشركة بدعوى أنها تشكل خطرا على الأمن القومي”.
واتجهت هذه الشركة الصينية العملاقة لتعميق التعاون مع الجانب الروسي فيما كان عراب الدبلوماسية والأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر” قد خرج من قبل بدعوة للتقارب بين واشنطن وموسكو لوقف ما وصفه “بالتوسع الصيني” فيما يحظى كيسنجر حتى الآن بكلمة مسموعة لدى صانع القرار الأمريكي وهو الذي يمضي الآن في عامه السادس والتسعين وشغل منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في سنوات حاسمة بسبعينيات القرن الماضي.
ومع توترات تصاعدت بين الجانبين الأمريكي والصيني في خضم تنافس على مكاسب تجارية لتتحول إلى مواجهة تثير قلقا عالميا يتجدد الحديث بقوة فى الآونة الأخيرة عن “الحرب الثقافية” بصورة تعيد للأذهان أجواء عصر الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومنظومة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتى السابق والذي دخل في ذمة التاريخ في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي فيما باتت هذه الحرب تستخدم ضمن ممارساتها لافتات حقوق الإنسان.
وتتهم الصين الإدارة الأمريكية باستخدام لافتات وشعارات حقوق الإنسان “كأداة ضمن أدوات سعيها لتكريس هيمنتها العالمية” فيما تطلق بكين تحذيرات للمواطنين الصينيين من السفر للولايات المتحدة التي رأت صحيفة الشعب الصينية أنها “عدوة العالم”.
وما يحدث الآن على صعيد الحرب الثقافية الأمريكية – الصينية “لكسب القلوب والعقول” يستدعي ذكريات ظن البعض أنها دفنت للأبد مع انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق.
هذه الذكريات تتضمن بعض الكتب مثل ذلك الكتاب للكاتبة والباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز الذي صدر منذ عدة سنوات بعنوان :” من دفع للزمار :الحرب الباردة الثقافية” وتضمن معلومات مثيرة حول تلك المنطقة الرمادية التى تستخدم فيها اجهزة المخابرات مجال الثقافة فى لعبة الأمم والحروب السرية وتشكيل العقول وتفجير الدول من الداخل.
وحسب هذا الكتاب فإن بعض أصحاب القامات الفكرية العالية في الغرب شاركوا في “حروب كسب العقول والقلوب” التى قادتها المخابرات الأمريكية وكانت تصب فى نهاية المطاف فى خدمة الهيمنة الثقافية الأمريكية والتلاعب والسيطرة على منابر الكتب والفن والسينما والموسيقى .
والمؤرخ الراحل البرت حوراني والذي تخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط قال في مقابلة منشورة إن منظمة كانت ناشطة في ستينيات القرن العشرين وتحمل اسم “مؤتمر الكونجرس للحرية الثقافية” قد ثبت فيما بعد أنها “منظمة تعمل كغطاء لأنشطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية”.
والتركيز الواضح في الصحافة الثقافية الغربية على أسماء أدباء صينيين منشقين أو معارضين للنظام الحاكم في بلادهم ليس بالأمر الجديد في خضم الحروب الثقافية حيث عمد الغرب لهذا الأسلوب أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق.
ومع التسليم بالموهبة الأدبية الفذة لأديب مثل النوبلي الروسي الراحل الكسندر سولجنتسين فان الغرب ابان عصر الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي لم يدخر جهدا في سياق الحروب الثقافية للتهليل لهذا الأديب المنشق على النظام الشيوعي والترويج لأعماله مثل روايته “ارخبيل الكولاج” التي تناول فيها مآساة ملايين البشر فى معسكرات العمل الاجبارى بالاتحاد السوفييتى السابق.
وإن كان انهيار الاتحاد السوفييتى ودول المنظومة الشيوعية التى دارت فى فلك موسكو قد أفضى لفتح ملفات الأرشيف السرى وكشف طرف من الحروب الثقافية التي دارت بين المنظومتين الغربية الرأسمالية والشيوعية وساهمت بقوة في خلخلة الاتحاد السوفييتي السابق فإن هذه الحروب تتجدد الآن بصيغ متعددة في المواجهة الأمريكية مع الصين.
ومن الواضح لكل ذي عينين أن هذه الحروب الثقافية لم تكن بعيدة عن استخدام منظمات غربية ترفع لافتات حقوق الإنسان بينما يفضي التحليل الموضوعي لممارساتها عن كشف نزعة واضحة “لتسييس قضايا حقوق الإنسان بما يخدم مصالح الجهات والأطراف التي تقف وراء هذه المنظمات” وهو ما يحدث في الاستهداف الأمريكي والغربي للتجربة الاقتصادية الصينية التي حققت إنجازات مزعجة للأمريكيين ودول أخرى في الغرب.
ومن جانبها تمضي الصين في تصعيد حملتها الدعائية ضد الولايات المتحدة وتبث وسائل إعلامها المتلفز حتى بعض الأفلام الوثائقية التاريخية لمعارك مع الأمريكيين انتصر فيها الصينيون مثل “معركة الربوة المثلثة” التي وقعت ابان الحرب الكورية عام 1952.
وفي خضم طموحات تعظيم القوة الناعمة الصينية أقدمت الصين على استثمارات في هوليوود وشراء بعض شركات الإنتاج السينمائي الأمريكي وهكذا راح البعض يتحدث في الكونجرس الأمريكي عن “الغزو الصيني لهوليوود”.
وكان المخرج الأمريكي والتايواني الأصل انج لي قد توقع بأن تتفوق السينما الصينية على هوليوود في غضون السنوات القليلة المقبلة فيما أوضح هذا المخرج الذي حصل على جائزة الأوسكار مرتين أن صناعة السينما في الصين ضخمة وستزداد ضخامة في السنوات القادمة بما يتجاوز صناعة السينما الأمريكية.
وفي دراسة بعنوان :”ما السبيل لمواجهة الهجوم الدعائي الصيني في العالم ؟” اعتبر الباحثان المشاركان في “معهد ميركاتور للدراسات الصينية” اولبيرج وبيرترام لانج أن الديمقراطيات الغربية واجهت تحديات صعبة من جانب الصين.
واعتبر الباحثان أنه في الوقت الذي “يواجه فيه الغرب أوجه القصور في العملية الديمقراطية تنتهز الصين الفرصة لتعزيز نظامها” وتخوض صراعا أيديولوجيا مع الغرب وهو صراع لابد وأن تستخدم فيه القوة الناعمة لزيادة جاذبية النموذج الصيني في الخارج.
وتقدر حجم الموازنة المخصصة سنويا لتعزيز “الحضور العالمي لوسائل الإعلام الصينية” بعشرة مليارات دولار أمريكي فيما تتوالى المؤشرات حول تصاعد صراع القوة الناعمة بين الصين والولايات المتحدة في سياق نوع جديد من الصراعات السياسية – الاقتصادية..صراعات كأنها قدر عالم لديه ما يكفي من الأحزان!.
المصدر : وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)