شكل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الخميس الماضي انسحاب القوات الأمريكية من سوريا “قريباً جداً”، وترك الاهتمام بها للآخرين، مفاجأة كبرى ، ليس فقط للأطراف المعنية والفاعلة في القضية السورية، بدءاً من روسيا والنظام السوري وإيران وتركيا والأكراد؛ بل أيضاً للرأي العام الدولي ولدوائر صنع القرار الداخلي في الولايات المتحدة المعنية منها وزارتا الخارجية والدفاع، لما يمثله من نقطة تغير واضحة في مسار الاستراتيجية التي تتبعها واشنطن إزاء المعادلة السورية.
والمثير أن الرئيس الأمريكي ترامب أتبع قراره بتصريحات جديدة حول تجميد 200 مليون دولار مخصصة لدعم مشروعات إعادة الإعمار في مناطق شمال سوريا، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول تفسيرات وأبعاد القرار الأمريكي وتوقيت الإعلان عنه وتداعياته والأطراف التي تحقق مكاسب والتي تحقق خسائر جراء هذا القرار وأيضا مدى علاقته باتفاقات غير ظاهرة قد تكون عقدت تحت الطاولة بين الأطراف الدولية و الاقليمية الفاعلة بشأن الملف السوري.
تفسيرات للقرار الأمريكي
ثمة عدة تفسيرات مختلفة يطرحها المراقبون حول الأسباب التي دفعت ترامب لاتخاذ مثل هذا القرار ويأتي في مقدمتها ، وصول مكافحة تنظيم “داعش” في سوريا إلى طريق مسدود: إذ كان ظهور “داعش” في المنطقة من عام 2014 وحتى 2017 لحظة مفصلية؛ أدى إلى خلق قوات كردية ذات طموح انفصالي، أبرزها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من واشنطن، وحزب الاتحاد الكردستاني القريب من نظام الأسد، وحطت أقدام الجنود الأمريكيين رسمياً في تلك الفترة، ووصل عددهم وفق ما أعلن البنتاجون في عام 2017 إلى 2000 جندي، ويمتد الوجود الأمريكي من منبج “شمال غرب” حتى الحسكة “شمال شرق” مروراً بمحافظتي الرقة ودير الزور، فضلاً عن وجود قواعد لها على الحدود العراقية – الأردنية .
ويرتبط بما سبق، وجود قناعات لدى ترامب بأن القوات التي تدعمها واشنطن والمتمثلة بـ”قوات سوريا الديموقراطية” باتت تمسك بزمام الأمور، ويمكن الاعتماد عليها في المناطق السورية التي لها أهمية لدى واشنطن، ويمكن للأمريكيين التدخل عند الحاجة لذلك؛ بالإضافة إلى وجود القواعد العسكرية الأمريكية على الأرض السورية.
التفسير الثاني: الأزمة المتصاعدة بين موسكو والغرب، ورغبة الولايات المتحدة الابتعاد ولو إعلامياً عن كل ما سيجري في سوريا وترك روسيا في الواجهة، وترك المنطقة تدخل فوضى عارمة ولإنهائها لا بد من تدخل أمريكي حاسم بقوة عسكرية والعمل على تغيير قواعد اللعبة في المنطقة.
التفسير الثالث: وهو أن الإعلان الأمريكي بالانسحاب من سوريا له صلة بمعطيات داخلية أمريكية، مرتبطة أساساً باستمرار التحقيقات الأمريكية في قضية التدخل الروسي بالانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، وتصاعد الخلاف بين أمريكا وروسيا على خلفية أزمة العميل المزدوج في بريطانيا، وتداعياتها المتمثلة بالحرب الدبلوماسية والطرد المتبادل للدبلوماسيين، وإغلاق القنصليات، إضافة إلى التشكيلات الجديدة في الإدارة الأمريكية.
التفسير الرابع : ويرتبط بمستقبل العلاقة مع إيران وبرنامجها النووي: فمن الواضح أن المواقف المتشددة لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين تعارض أي انسحاب أمريكي مبكر من سوريا، وهو ما يعزز احتمال الشكوك بإعلان الرئيس الأمريكي، وأنه سيذهب باتجاه توجيه ضربة عسكرية لإيران، ولا يريد أي تواجد لجنود أمريكيين تحت تأثير رد الفعل الإيراني.
التفسير الخامس: أنه ربما يكون الانسحاب الأمريكي مقدمة لوضع نهاية للحرب في سوريا، والبدء في إطلاق مسار سياسي حقيقي، يتجاوز “مناكفات” جنيف وسوتشي وأستانا، بشرط وجود اتفاق أمريكي روسي، وهو ما يمكن تسميته بـ ” صفقة القرن”.
تداعيات القرار
يعتقد المحللون أن قرار ترامب بالانسحاب من سوريا “قريبا جدا ” – حسب تعبيره – يثير مخاوف داخلية وخارجية، إذ يحذر مسؤولون أمريكيون من أن الانسحاب الآن من شأنه ألا يقوض فقط مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة، ولكن سيدفع إلى صراع مدمر بالفعل في المنطقة؛ لكون الوجود الأمريكي يشكل نقطة توازن.
كما أن قرار ترامب لن يمر دون مقاومة داخلية، خصوصاً من المسؤولين الذين عينهم مؤخراً، وتحديداً جون بولتون الذي يكن العداء للنظام السوري والإيراني، بالإضافة إلى وزير الدفاع جميس ماتيس الذي يرى وجوب بقاء واشنطن في المناطق التي كان فيها “داعش” وإعادة إعمارها؛ للنجاح في إنشاء بيئة جديدة معادية للفكر المتطرف.
وسبق أن صرح جميس ماتيس في أكتوبر الماضي، بأن قوات بلاده ستبقى إلى أجل غير مسمى، لمنع عودة “داعش” ومحاربة التمدد الإيراني الذي يؤثر على المصالح الأمريكية .
وبعبارة أخرى يمكن القول أن ثمة ثلاثة أسباب ستقف في وجه قرار ترامب: الأول ضغوط من داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، الثاني رفض من الكونجرس الذي يمول برامج مختلفة في سوريا، والثالث رفض إقليمي إذ سترى دول إقليمية عدة هذه الخطوة انتصاراً كبيراً لإيران وروسيا.
المكاسب والخسائر
قد يكون من المبكر الحكم على الأطراف الخاسرة والرابحة من الانسحاب الأمريكي من سوريا ، إلا أن المؤكد أن الطرف الكردي في شمال سوريا، حتى بافتراض أن تحل فرنسا محل الولايات المتحدة، سيكون الطرف الأكثر خسارة، في ظل مواقف الأطراف الأخرى منه، خاصة تركيا التي ستتعامل مع هذا الانسحاب، باعتباره إعلانا لإطلاق يدها ضد الأكراد، ووأد حلمهم بالاستقلال، ولا يستبعد قيام داعش بعمليات انتقامية ضد الأكراد بتواطؤ وتسهيلات من كافة الأطراف.
ووفقاً للمراقبين فإن قضية دعم فرنسا للأكراد ليست خياراً استراتيجياً بقدر ما هو تكتيك ظرفي للضغط على تركيا في شأن سعيها الانضمام للاتحاد الأوربي، ومن جهة أخرى هو تناغم مع موقف ترامب حول طرح الانسحاب من سوريا، سيما أن جلسة عقدت في مارس 2018 في بلغاريا حول البت في مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وهو أمر تعارضه فرنسا استراتيجيا، علماً بالمشروع الفرنسي الألماني هو للحفاظ على النزعة “الأوروبية” للاتحاد الأوروبي وأن تركيا تشكل بطبيعة الحال تهديداً لهذه النزعة سياسيا وديمغرافيا.
وربما تشهد المرحلة المقبلة تنسيقا إيرانيا تركيا في سوريا، لكن مستقبل هذا التنسيق، في ظل الغياب الأمريكي، سيكون محل شكوك عميقة لأسباب مرتبطة بتباين المشروعين التركي والإيراني في المنطقة.
وإذا كانت الإستراتيجية الأمريكية بُنيت منذ تولي جيمس ماتيس على فكرة البقاء الاحتلالي الدائم، كجزء من المواجهة الاستراتيجية مع روسيا وكجزء من المشروع الجيوبولتيكي الأمريكي اقتصاديا، وأمام مجريات الأحداث في العراق وجدولة الانسحاب الأمريكي من العراق، فإن القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا سيشعل صراعاً تركياً مع روسيا في سياق أستانة لأنه سيزيد من الأطماع التركية الاحتلالية بملء الفراغ العسكري الأمريكي بحسب التقديرات التركية، وهو ما يجهض سلفاً لقاء قمة اليوم الأربعاء المقررة بين رؤساء ايران وروسيا وتركيا في أنقرة.
فضلاً عن أن تركيا ربما تكون الخاسر الأكبر وسترتبط أكثر بروسيا وإيران، في ظل غياب واضح لأي سياسة عملية وواضحة تجاه الملف السوري، لأن الوجود الأمريكي كان يشكل عامل توازن لها في سوريا ما يعني أنها ستخسر ورقة قوية جداً في التعامل مع الغرب، وستجد نفسها بعد فترة خارج سوريا بضغوطات إيرانية – روسية .
إجمالاً يمكن القول أن القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا سيقلب موازين قوى المصالح في المنطقة، وربما يكون هذا الانسحاب مدخلاً لتفاهمات أمريكية إيرانية بإشراف روسي، على غرار التفاهمات الأمريكية مع كوريا الشمالية.
المصدر : أ ش أ