رغم المحاولات العلنية والسرية لاحتواء الأزمة الحالية بين أنقرة وواشنطن على خلفية قضية القس الأمريكي أندرو برنسون، لا تلوح في الأفق حتى الآن، أية بوادر أو مؤشرات على التوصل لحل قريب لهذه الأزمة، التي تعصف بالعلاقات التركية الأمريكية، والتي وصفها مراقبون بأنها الأزمة الأسوأ التي تشهدها هذه العلاقات منذ الأزمة القبرصية عام 1974، والتي أعقبها فرض عقوبات عسكرية أمريكية على تركيا بعد تدخلها عسكريًا في قبرص.
إذ تظهر تطورات الأزمة تمسك كل طرف بموافقه والتشدد حيالها ورفض إبداء أية مرونة يمكن أن تسهم في حلحلة الأزمة أو تخفيف حدتها، فبينما تصر واشنطن على إطلاق سراح القس أندرو برنسون الذي يُحاكم في تركيا بتهمة التجسسس والاتصال بجماعات إرهابية، يتمسك الطرف التركي بضرورة احترام كلمة القضاء في قضية برنسون ورفض التدخل فيها.
ورفضت محكمة تركية الأسبوع الماضي طلبًا من محامي برنسون بإطلاق سراح موكله الذي يخضع للإقامة الجبرية في منزله، الأمر الذي أثار مزيدًا من الغضب في الولايات المتحدة، حيث لوحت على لسان الرئيس دونالد ترامب بفرض عقوبات اقتصادية إضافية ضد تركيا ما لم تفرج عن برنسون فورًا، وحذر ترامب أنقرة من إجراءات جديدة ضدها بعد قرار المحكمة التركية، وقال إن أنقرة تصرفت “بحماقة” في هذه الأزمة وإن إدارته لن تقف مكتوفة الأيدي.
كما هدد وزير الخزانة الأمريكي ستيفين منوشن بمزيد من العقوبات حتى يتم الإفراج عن برنسون، وقال “لدينا المزيد الذي نخطط للقيام به إذا لم يفرجوا عنه سريعًا”، في مقابل ذلك هددت أنقرة بالرد بالمثل إذا فرضت واشنطن عقوبات أخرى ضدها.
وكانت الولايات المتحدة قد ضاعفت الرسوم الجمركية على الصادرات التركية من الصلب والألومنيوم إلى أسواقها على خلفية الأزمة الدبلوماسية التي فجرتها قضية القس برنسون، الأمر الذي أدى إلى انهيار كبير في سعر الليرة التركية.
وردت أنقرة على الخطوة الأمريكية برفع الرسوم على الصادرات الأمريكية من التبغ والكحول والسيارات، وقال وزير التجارة التركي روهسار بيكان إن على واشنطن توقع مزيد من الإجراءات المماثلة.
وفي ظل غياب أي مؤشرات على انفراج قريب، تطرح الأزمة الحالية بين تركيا والولايات المتحدة -والتي يرى بعض المحللين أنها تسير في طريق مسدود- العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الأزمة ستقود إلى قطيعة كاملة في العلاقات بين البلدين، وما هي الخيارات المتاحة أمام تركيا في مواجهة الضغوط الأمريكية؟
مصالح استراتيجية
رغم التوتر الحالي ولغة التهديدات والعقوبات المتبادلة يتفق كثير من المراقبين على أن العلاقات التركية الأمريكية لن تصل إلى نقطة اللاعودة أو القطيعة، لاسيما في ظل المصالح الاستراتيجية الكبرى بين بلدين عضوين في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، سواء فيما يتعلق بالتعاون بشأن ملفات وقضايا المنطقة أو التنسيق بينهما في مجال مكافحة الإرهاب، أو التعاون تحت مظلة وأهداف حلف الناتو في مواجهة خصوم الحلف التقليديين.
ولعل ذلك ما يفسر حرص المسؤولين الأتراك والأمريكيين – رغم التشنج الظاهر في تصريحات ومواقف الطرفين – على البحث عن مخرج من الأزمة الحالية بأقل قدر من الخسائر الممكنة للعلاقات بين البلدين.
فعلى الصعيد الدبلوماسي اجتمع مسؤولون أمريكيون وأتراك للمرة الثانية خلال أيام؛ سعيًا لتخفيف التوتر القائم بين البلدين، والتقى السفير التركي في واشنطن سردار قاليج مع مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض إن اللقاء جرى بناءً على طلب السفير التركي، وأنهما بحثا قضية القس برانسون، ووضع العلاقات الأمريكية التركية.
وجاء هذا اللقاء بعد أيام قليلة من زيارة قام بها نائب وزير الخارجية التركي إلى واشنطن حيث أجرى محادثات مع نظيره الأمريكي، في محاولة لتهدئة الأزمة في العلاقات بين البلدين، لكن فيما يبدو لم تسفر هذه اللقاءات عن أي حلحلة في هذه الأزمة، بل إن تطورات الأحداث سارت عكس ذلك.
أما على الصعيد العسكري فإن التوتر غير المسبوق بين البلدين، لم يمنعهما من مواصلة تعاونهما العسكري المعتاد وأعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن القوات التركية ستنفذ تدريبات مشتركة مع نظيرتها الأمريكية بمنطقة “منبج” شمالي سوريا.
وذكر بيان لوزارة الدفاع التركية، مساء السبت الماضي، أن الأنشطة التي تنفذها تركيا وعناصر القوات الأمريكية تهدف إلى إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة، وفقًا لخارطة الطريق حول منبج، التي توصلت إليها أنقرة مع واشنطن في شهر يونيو الماضي.
لكن هذا التعاون العسكري بين تركيا والولايات المتحدة، والمساعي الدبلوماسية لحلحلة الأزمة لا يعني بالضرورة عودة الدفء قريبًا للعلاقات بين البلدين، لاسيما في ظل الخلافات القائمة بينهما حيال الكثير من الملفات والقضايا، التي تتجاوز قضية القس برنسون، التي لا تعدو كونها رأس جبل جليد يخفي تحته العديد من أسباب التأزم التي القت بظلالها على مجمل مسيرة العلاقات بينهما خلال السنوات الماضية.
قضايا خلافية
وفي هذا الإطار يمكن رصد مجموعة من أسباب التوتر الذي تشهده العلاقات التركية – الأمريكية وأهمها.
– الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا، فبينما تعتمد واشنطن علي هؤلاء المقاتلين في التصدي لتنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا، تصنفهم تركيا كإرهابيين.
– التقارب بين موسكو وأنقرة في قضايا استراتيجية، خصوصًا بعد شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الصاروخية الروسية “إس -400”.
– العلاقات التركية الإيرانية، هي إحدى النقاط الخلافية بين واشنطن وأنقرة، لاسيما بعد إعلان الرئيس التركي أن إيران شريك استراتيجي لبلاده.
– قضية الداعية فتح الله جولن المقيم بالولايات المتحدة، الذي تتهمه السلطات التركية بالضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت قبل عامين، هي إحدى القضايا الخلافية الساخنة بين واشنطن وأنقرة.
– بوصول ترامب إلى البيت الأبيض خلفًا لباراك اوباما، أضيف عامل آخر من عوامل التوتر في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، لاسيما في ظل السياسة التي يعتمدها ترامب في إدارة علاقات بلاده الخارجية، وهي سياسة صدامية قائمة على الدخول في مواجهات حتى مع حلفاء الولايات المتحدة من أجل الانتصار للمصالح الأمريكية.
كل هذه العوامل مجتمعة تشير إلى أن العلاقات التركية الأمريكية مرشحة لمزيد من التأزم حتى وإن تجاوزت قضية القس برنسون، وهو ما يقود إلى السؤال المتعلق بخيارات تركيا في مواجهة الضغوط الأمريكية، لاسيما في حال شهدت هذه العلاقات مزيدًا من التوتر، وفي هذا الإطار يمكن التوقف عند عدد من الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها أنقرة ردًا على ضغوط واشنطن:
– مزيد من التقارب مع روسيا..ففي خضم الأزمة الحالية مع واشنطن لوحّ الرئيس التركي بالبحث عن حلفاء جدد وشركاء آخرين؛ ردًا على العقوبات الأمريكية التي وصفها بأنها “حرب تجارية” على بلاده، وهذا الخيار يعني أن أنقرة ستتجه أكثر للتحالف مع الروس على حساب علاقاتها مع الغرب، وهو أمر يبدو ورادًا بالنظر إلى مستوى التقارب الذي شهدته العلاقات بين أنقرة وموسكو اقتصاديًا وعسكريًا وظهرت بوادر هذا التقارب في الزيارة اللافتة التي قام بها وزير الدفاع خلوصي آكار ورئيس جهاز الاستخبارات التركية “هاكان فيدان” إلى موسكو الأسبوع الماضي، وفي ذروة التوتر مع واشنطن؛ لبحث التعاون العسكري والأمني بين البلدين.
– وفي نفس السياق قد تشهد علاقات تركيا مع إيران والصين مزيدًا من التقارب ولاسيما على الصعيد الاقتصادي والتجاري على حساب هذه العلاقات مع الولايات المتحدة، لاسيما بالنظر إلى التنافس التقليدي بين الصين والولايات المتحدة على النفوذ على الساحة الدولية وهو ما قد تستغله تركيا لصالحها، ويشار في هذا الصدد إلى أن عددًا كبيرًا من مليارديرات الصين أعلنوا عن ضخ مليارات الدولارات كاستثمارات في تركيا لدعم اقتصادها ردًا على العقوبات الأمريكية.
-الانفتاح أكثر اقتصاديًا على دول المحيط الإقليمي وخصوصا العراق، حيث قد تدفع الأزمة الحالية أنقرة إلى السعي لتجاوز الخلافات القائمة مع بغداد، والانتصار للغة المصالح في العلاقات بينهما بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، ولعل هذا ما يفسر الحفاوة التي استقبل بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من قبل أرودغان خلال زيارته الأخيرة لتركيا.
– التلويح بإغلاق قاعدة انجيرلك العسكرية وهي القاعدة الجوية الرئيسية لحلف شمال الأطلسي في تركيا والتي تشكل مركزًا لعمليات التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في سوريا، هذا الخيار ربما يكون، حسب محللين، آخر الأوراق التي قد تلجأ إليها تركيا في حال تفاقمت علاقاتها مع الولايات المتحدة، ويرى مراقبون أن إقدام تركيا على قرار بإغلاق القاعدة سيكون خطأ استراتيجيًا كبيرًا سيكلفها غاليًا وهو ما سيجعلها تترد كثيرًا قبل التفكير في هذه الخطوة.
ويرى الكثير من المحللين أن الأزمة الحالية بين تركيا والولايات المتحدة حتى وإن دفعت أنقرة للبحث عن خيارات أخرى وحلفاء جدد، فإن ذلك لا يعني وصول العلاقات بينهما إلى نقطة اللاعودة أو انتهاء التحالف بينهما، لاسيما وأن تركيا بموقعها الجيوسياسي تظل دولة مهمة بالنسبة للسياسة والمصالح الأمريكية، كما أن تركيا وإن تقاربت مع روسيا والصين، فإن ذلك يبقى تقاربًا تكتيكيًا لا استراتيجيًا ولن يكون بديلًا عن علاقتها الاستراتيجية بحلف شمال الأطلسي.
المصدر : أ ش أ