منذ أعلن رجب طيب أردوغان في آخر لقاء مع كتلة حزبه البرلمانية، عن سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والقانونية، يتخوف مراقبون للشأن التركي من الخطوات التي قد يقدم عليها الرئيس في المستقبل المنظور، بالذات تجاه المؤسسة القضائية، آخر رموز استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة.
فطوال السنوات الماضية، وكلما كان الرئيس التركي يعرض مشروعا إصلاحيا ما، فإنه فعليا كان “يستولي” على واحدة من مؤسسات الدولة، من الجيش إلى المجلس الأعلى للتعليم، مرورا بالبنك المركزي وباقي الهيئات المستقلة.
وبينما كان أردوغان منهمكا طوال الأسبوع الماضي في الترويج والإعلان عن نوعية الإصلاحات القانونية التي سوف ينفذها، مذكرا بأن تلك الخطوة “تأتي بناء على مشاورات معمقة مع الخبراء القانونيين وجماعات حقوق الإنسان في أنحاء البلاد”، كان الأتراك ووسائل الإعلام يشيرون إلى تعيين الرئيس للنائب العام في مدينة إسطنبول عرفان فيدان عضوا في محكمة الاستئناف العليا، الإجراء الذي ينظر إليه كـ”عتبة أولية” قبل تعيينه في المحكمة الدستورية العليا.
ويعرف فيدان بأنه “أقرب رجال القضاء التركي لأردوغان وأكثرهم تنفيذا لطلباته، خصوصا في مواجهة خصومه السياسيين”، وستعني عضويته في المحكمة الدستورية سيطرة الرئيس على هذه المؤسسة القضائية، الجوهرية في مسألة الهيمنة على الدولة، خصوصا أن أردوغان والمؤسسات القضائية والإدارية المرتبطة به أعاقوا جميع الانتخابات الفرعية التي قد تشكل أعضاء محكمة الاستئناف، وتاليا يغدو فيدان “مرشحا إجباريا” عن محكمة الاستئناف.
وتأتي أهمية المحكمة الدستورية العليا في تركيا من السلطات التي تمتلكها، بداية من حقها في مراجعة أي عرض لتغيير الدستور، حتى فحص دستورية القوانين والمراسيم والأعمال التي يقوم بها البرلمان.
ولا ينتهي الأمر بما تملكه المحكمة الدستورية العليا من سلطة العمل كجهة تحقيقية وقضائية جنائية، في القضايا التي تُثار حول رئيس الجمهورية ونائبه وأعضاء مجلس الوزراء، وحتى قضاة المحاكم العليا الأخرى، كذلك فإنها تعتبر محصلة باقي المؤسسات المركزية في البلاد، لأن أعضاءها، وإن كان رئيس الجمهورية يختارهم، فإن مرشحيه يأتون من ترشيحات مؤسسات مختلفة، مثل محكمة النقض العليا ومجلس الدولة ومجلس التعليم العالي، وهكذا فإن الأمر يعني أنها صاحبة القرار الأعلى في مختلف التحولات الجوهرية التي قد يشهدها البلاد، خصوصا أثناء الأزمات.
وتتألف المحكمة الدستورية العليا في تركيا من 16 عضوا، يختارهم رئيس الجمهورية ويمكن التجديد لهم عبر التصويت السري، وتعتبر قراراتها نافذة وملزمة لمختلف السلطات والمؤسسات في البلاد.
وخلال سنوات حكمه كرئيس للجمهورية، عين أردوغان 6 أعضاء في المحكمة الدستورية العليا، وسيكون العضو الجديد السابع، وهم جميعا موالون تماما له، كذلك فإنه ثمة أعضاء في المحكمة، من الأعضاء الثمانية الذين عينهم الرئيس السابق عبد الله غول، يوالون أردوغان، فأثناء سنوات حكم سلفه كان الرئيس الحالي رئيسا للوزراء، وباستطاعته فرض بعض القرارات على رئيس الجمهورية.
وقد شكلت قضية الكاتب والمفكر التركي أحمد آلتان نموذجا عن الأدوار التي يمكن أن تلعبها المحكمة الدستورية، والسلطات التي تملكها هذه المؤسسة.
فبعد جدالات واحتجاجات ضخمة طوال سنوات، بما في ذلك تعليقات من منظمات حقوقية ومؤسسات قضائية أوروبية وعالمية كلها لصالح الكاتب والمفكر التركي المعتقل منذ سنوات، وبتهم واهية تتعلق بمناهضته لأردوغان عبر كتابات صحفية، فإن المحكمة الدستورية العليا التركية أعلنت عدم وقوع أي انتهاك لحقوق آلتان، مؤيدة قرار الحكم عليه ومعتبرة أنه “لا يمس الحق في الحرية والأمن”.
ومن جهة اخرى، تحدثت صحيفة “فينانشال ميرور” القبرصية في تقرير موسع، عن أحوال الاقتصاد التركي، ومدى ما قد يتأثر به في المدى المنظور من التغيرات التي قد يجريها أردوغان على المؤسسة القضائية العليا.
وذكّرت الصحيفة بأن وزير العدل التركي عبد الحميد غول، الذي كان أهم أدوات أردوغان لقمع الشخصيات والقوى السياسية المناهضة له، قد اكتشف أهمية هذه العلاقة، وصار يطالب بإصلاح القضاء ليكون أداة لإعادة الانتعاش إلى الاقتصاد التركي، الأمر الذي قد يؤشر إلى محاولات أقوى من أردوغان للسيطرة على المحكمة الدستورية.
كما أشارت تقارير صحفية إلى ما يمكن أن يقدم عليه أردوغان خلال الأشهر الستة المقبلة، من حيث تكوين كتلة داخل المحكمة الدستورية يستطيع من خلال قوتها مواجهة أنداده السياسيين، ومن طرف آخر لتغيير بعض القوانين والإجراءات التي تضمن له هيمنة مطلقة على مجريات العمليات الانتخابية المستقبلية، بما في ذلك تغيير الدوائر وقوانين الانتخاب، لتضمن له البقاء في الحكم، وهو أمر لا يمكن ضبطه إلا عبر محكمة دستورية موالية له.