فعلها الرئيس الامريكي دونالد ترامب وأنسحب من الاتفاق النووي مع إيران ، ضاربا عرض الحائط بكل التحذيرات والمناشدات له بعدم الإقدام على هذا القرا ، لاسيما من جانب حلفائه الاوربيين الذين لم يخفوا قلقهم ومخاوفهم من التداعيات الخطيرة لقرار الإنسحاب على مستقبل الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم.
ولم يكتف ترامب بالإنسحاب من الاتفاق ، الذي قال إنه فشل في الحد من طموحات إيران النووية ومشروعها التوسعي في المنطقة ،وكذلك تطوير برنامجها للصواريخ البالستية، بل قرر فرض سلسلة جديدة من العقوبات ضد طهران،محذرا من أن واشنطن ستفرض عقوبات أيضا على أي دولة تساعد إيران. فيما توعد وزير خارجيته مايك بومبيو، طهران بـ”عزلة دبلوماسية واقتصادية”.
وكانت إيران قد وقعت هذا الاتفاق في فيينا عام 2015، مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة ، وروسيا، والصين، وفرنسا وبريطانيا) إلى جانب المانيا .وينص الاتفاق على التزام طهران بالتخلي، لمدة لا تقل عن 10 سنوات، عن أجزاء حيوية من برنامجها النووي، وتقييده بشكل كبير، بهدف منعها من امتلاك القدرة على تطوير أسلحة نووية، وذلك مقابل رفع العقوبات عنها.
لكن ترامب ومنذ أن كان مرشحا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، لم يخف رفضه لهذا الاتفاق الذي وقعه سلفه باراك أوباما.وقد تعهد خلال حملته الانتخابية بالانسحاب منه ،وهو التعهد الذي أوفى به أخيرا بعد شهور من التردد نتيجة ضغوط وتحذيرات حلفائه الغربيين وبعض مستشاريه من تداعيات هذه الخطوة.
وتقول واشنطن إن طهران استغلت الاتفاق ورفع العقوبات الاقتصادية عليها من أجل تعزيز ترسانتها الصاروخية ،والمضي قدما في تطوير برنامجها النووي بشكل بات يمثل تهديدا للمصالح الأمريكية في المنطقة.لكن طهران تؤكد باستمرار أن برنامجها النووي مصمم للأغراض السلمية.
ويطرح الإنسحاب الامريكي من الاتفاق النووي الإيراني أسئلة عديدة حول التداعيات والسيناريوهات المحتملة لهذه الخطوة سواء على صعيد رد الفعل الإيراني وخيارات طهران أزاء هذه الخطوة ، أو بالنسبة للوضع في المنطقة واحتمالات أندلاع حرب اقليمية في الشرق الأوسط ، أو فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الاوربية وتأثير هذا القرارعليها ، ومدى قدرة الدول الاوربية على انقاذ الاتفاق أو تحدي الموقف الأمريكي من إيران ؟ وإين تقف إسرائيل من كل ما يحدث هذا الملف ؟
الرد الإيراني على الخطوة الأمريكية أظهر حرصا على انقاذ الاتفاق لا الإنسحاب منه ، حيث سعت طهران بذكاء دبلوماسي للبناء على الموقف الاوربي المتمسك بالاتفاق والمعارض بوضوح لقرار ترامب .وعلى عكس ما كان أعلنه “علي أكبر ولايتي” مستشار مرشد الجمهورية الإيرانية للشؤون الخارجية من أن بلاده لن تبقى في الاتفاق النووي في حال انسحبت منه الولايات المتحدة ، جاءت تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني لتعكس تمسك طهران بالاتفاق. فقد أكد روحاني أن انسحاب واشنطن منه لا يعني الغاءه ،وقال إن “الاتفاق لم یكن ثنائي الجانب كي تلغيه أمريكا” مضيفا “الاتفاق بات اليوم بين إيران و5 دول أخرى، دون الوجود الأمريكي”.
ورغم اعلانه إرسال وزير خارجيته محمد جواد ظريف إلى الدول الخمس التي لم تنسحب في محاولة لانقاذ الاتفاق ، إلا أن الرئيس الإيراني لوح في الوقت نفسه بخيارات اخري في حال فشلت هذه المحاولة في ضمان مصالح إيران ، ومن هذه الخيارات استنئاف تخصيب اليورانيوم بمعدلات اكثر من ذي قبل ، حيث قال روحاني إنه أمر المنظمة الذرية الإيرانية “بأنه متى دعت الحاجة، سنستأنف تخصيب اليورانيوم أكثر من قبل”
ويرى مراقبون أن إيران، وفي حال فشلت جهود انقاذ الاتفاق ، قد لا تكتفي فقط بتخصيب اليورانيوم ردا على الموقف الأمريكي ولاسيما ما يخص تشديد العقوبات الاقتصادية عليها والتي من شأنها ان تلحق اضرارا كبيرة بالاقتصاد الإيراني الذي كان قد بدأ في التعافي بعد عقود من العقوبات والحصار الأمريكي. ولا يستبعد أن تلجأ إيران إلى خطوات تصعيدية اخرى دفاعا عن مصالحها ، وربما يصل الأمر إلى نشوب حرب في المنطقة، لاسيما وأن التيار المتشدد في إيران يرى أنه لا جدوى من البقاء في الاتفاق بعد انسحاب واشنطن منه .
وفيما يتعلق بالتداعيات الاقليمية لقرار الانسحاب الامريكي واحتمالات نشوب حرب في المنطقة ، يرى محللون أن المواجهة مع ايران باتت ،بعد هذا القرار،الأقرب ربما منذ أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران عام ١٩٧٩ ،لكن ذلك لا يعني أن الحرب ستقع غدا ، لكنه يعني أن المواجهة تحولت الى احتمال حقيقي.
وفي هذا السياق يتوقع المحللون أن تلجأ طهران لسياسة أكثر عدائية بعض الدول خليجية على رأسها السعودية لاسيما في حال فشلت محاولات انقاذ الاتفاق ..ولا يستبعد في هذه الحالة أن تتواصل وربما تتسع الحروب الحالية بالوكالة بين إيران وحلفاء واشنطن في المنطقة كما يحدث في سوريا، أو اليمن، ولبنان والعراق . حيث قد تشجع طهران بعض الميلشيات والجماعات الموالية لها في تلك الدول على شن هجمات ضد القوات الأمريكية.
ومما يزيد احتمالات تصاعد التوتر وعدم الاستقرار وربما الحرب في المنطقة ، أن قرار ترامب يأتي في وقت تتصاعد فيه التهديدات المتبادلة بين إيران وإسرائيل على خلفية الدور الأيراني في سوريا وهو دور بات يثير المخاوف الإسرائيلية .فقد نشرت إسرائيل منظومات للدفاع الجوي تحسبا لهجوم إيراني ردا على الهجوم الذي شنته إسرائيل على قاعدة عسكرية في سوريا، يخدم فيها عسكريون إيرانيون وأدت إلى مقتل عدد من هؤلاء العسكريين،. وفي ظل كل هذا التوتر يخشى كثيرون من أن يزيد الانسحاب من الاتفاق النووي من المخاطر القائمة بالفعل لاندلاع حرب بين البلدين ربما يتسع نطاقها في الشرق الأوسط بكامله.
على صعيد الموقف الاوربي كان قرار الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي مع إيران إعلانا عن فشل المحاولات الأوربية التي بذلت على مدى شهور لاقناع ترامب بالعدول عن قراره إذ طالما شّكل الاتفاق النووي أحد القضايا الخلافية بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين الذين يتمسكون بالاتفاق، ويحذرون من أن فشل سيؤدي لاندلاع سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط.
وقد أعرب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون عن أسف بلاده وألمانيا وبريطانيا لقرار واشنطن، محذرا من أن نظام حظر الانتشار النووي “بات في خطر، فيما أكدت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، فيدريكا موجريني، التزام الإتحاد بالحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران. وفيما بدا تطابقا مع الموقف الإيراني قالت موجريني إن “الاتفاق النووي مع إيران ليس اتفاقًا بين طرفين، وبالتالي لا يسع أي دولة أن تلغيه من جانب واحد”.
لكن الموقف الأوربي المتمسك بالاتفاق النووي مع إيران والجولة المرتقبة لوزير الخارجية الإيراني في هذه الدول بحثا عن حل ، يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الدول الاوربية ،خصوصا بريطانيا وفرنسا، على انقاذ هذا الاتفاق من خلال تقديم ما يقنع إيران لاقناعها بالبقاء في الاتفاق، دون الدخول في صدام مع الحليف الأمريكي .
وفي هذا الصدد ، يرى دبلوماسيون ومحللون غربيون أن قدرة أوروبا على إنقاذ الاتفاق النووي تعتمد بشكل كبير على رد فعل الشركات الاوربية على الوضع الجديد وكيف ستحاول أمريكا معاقبة هذه الشركات التي تتعامل مع إيران ، خصوصا وأن أوروبا هي أكبر شريك اقتصادي لإيران.
لكن هناك من يرى أنه سيكون من الصعب على أوروبا تجاهل الموقف الأمريكي ، حيث لا يمكن إجبار البنوك والشركات الاوربية الكبيرة على القيام بأنشطة تجارية مع إيران، لأنها ستكون عرضة للعقوبات الأمريكية. لكن هذا المأزق الذي تجد الدول الاروبية نفسها فيه ، لن يثنيها، كما يقول محللون ،عن مواصلة جهودها لانقاذ الاتفاق من خلال آليات اخرى من بينها العمل لادخال تعديلات عليه ، وهي مهمة لا تقل صعوبة أيضا.
وغير بعيد تبدو إسرائيل الغائب الحاضر في كل ما يشهده هذا الملف من تطورات ، ولابد من الإشارة هنا إلى أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي جاء بعد أيام من إعلان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عما وصفه بـ”ملفات سرية نووية تضم آلاف الصفحات من المواد التي حصلت عليها إسرائيل توضح أن إيران خدعت العالم بإنكار أنها كانت تسعى لإنتاج أسلحة نووية”.
كما أن القرار يأتي في وقت تتصاعد فيه نذر المواجهة والتوتر ببين إسرائيل وإيران على خلفية الوضع في سوريا. وفي ضوء ذلك تبدو إسرائيل الفائز الأكبر من هذا القرار وهو ربما ما يفسر الاحتفاء الاسرائيلي اللافت به .فقد وصفه نتنياهو بأنه “صحيح وشجاع”، في حين قال الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين إنه “خطوة هامة في ضمان أمن دولة إسرائيل “.
وبين أوراق واشنطن الاقتصادية والعسكرية وبين خيارات طهران المرتقبة، تبدو الأوضاع في المنطقة المتوترة أصلا ، مفتوحة أمام كثير من الاحتمالات المقلقة .
المصدر : أ ش أ