مع قرب انتهاء الفترة الانتقالية لإتمام الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، تتصاعد أجواء القلق على الساحة البريطانية من وقوع الانفصال دون التوصل إلى اتفاق تجاري بين لندن وبروكسل يحدد علاقتهما المستقبلية، وهو أمر إذا وقع سيكون نذيرًا بعواقب خطيرة على الاقتصاد البريطاني الذي يواجه بالفعل حاليًا أسوأ أزماته من جراء وباء “كورونا”.
ورغم تصريحات رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، أنه لا يتمنى انتهاء الفترة الانتقالية لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي دون التوصل لاتفاق تجاري جديد، إلا أنه يؤكد باستمرار إمكانية تعايش بلاده مع هذا السيناريو الخطر، فقبل يومين اتفق رئيس الوزراء البريطاني ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير على العمل على نحو مكثف” للتوصل إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد “بريكست”، في محاولة لبث حالة من التفاؤل إزاء هذا الوضع المتأزم.
ومن المنتظر أن تُعقد القمة الأوروبية القادمة في 15 أكتوبر الجاري وهي القمة التي ستكون على الأرجح الفرصة الأخيرة التي يمكن التوصل فيها إلى اتفاق لتتم المصادقة عليه قبل دخوله حيّز التنفيذ نهاية ديسمبر المقبل.
ومع تعثر جولات التفاوض بين لندن وبروكسل، والتي كانت آخرها نهاية الأسبوع الماضي، تتزايد فرص سيناريو “بريكست بلا اتفاق” الذي أصبح الأقرب للواقع، حيث يتعثر التوصل إلى اتفاق بين الطرفين نتيجة استمرار القضايا الخلافية بينهما وعلى رأسها قضية قوارب الصيد الأوروبية في مياه المملكة المتحدة، وقواعد المنافسة للشركات.
وازدادت أجواء التوتر بين الجانبين بعد أن وجهت بروكسل إنذارًا رسميًا مؤخرًا للحكومة البريطانية؛ ردًا على مشروع قانون تقدمت به الأخيرة لتنظّيم السوق الداخلية البريطانية، ويشتمل على بنود تخرق بعض الالتزامات التي تعهّدت بها بريطانيا في اتفاق “بريكست”، خاصة فيما يتعلق بالترتيبات الجمركية المتعلقة بالإعانات الحكومية لإيرلندا الشمالية.
وكان الأوروبيون قد أمهلوا لندن حتى نهاية سبتمبر لسحب هذا المشروع المثير للجدل، ولكن مع تأييد النواب البريطانيين لهذا القانون الأسبوع الماضي بدأت بروكسل في إطلاق أولى إجراءاتها القانونية المتعلقة بالإخلال “باتفاق بين الطرفين”، مشيرةً إلى أن الرسالة “تدعو الحكومة البريطانية لإرسال ملاحظاتها في غضون شهر”.
وفي ختام القمة الأوروبية التي عقدت بداية الشهر الجاري أقرت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي تترأس بلادها حاليًا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، بأن المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي دخلت الآن مرحلة الحسم، موضحة أن الأيام القليلة المقبلة ستكشف إمكانية “تحقيق تقدم أم لا”، وواصفة مشروع القانون البريطاني بأنه بمثابة “انتكاسة مريرة”.
في ضوء هذه الأجواء المضطربة، تصاعدت المخاوف داخل بريطانيا من سيناريو الانفصال دون اتفاق والتداعيات الخطيرة المترتبة عنه، حيث تسود حالة عامة من الاستياء وعدم الرضا بين المواطنين إزاء الحكومة البريطانية سواء بسبب رفضهم طريقة الأخيرة في مواجهة وباء “كورونا”، أو بسبب عدم توصلها حتى الآن إلى اتفاق مع الجانب الأوروبي وتزايد المخاوف من وقوع “بريكست فوضوي” تعود أضراره في المقام الأول على المواطنين.
ويحذر المراقبون الاقتصاديون من أن “بريكست بلا اتفاق” سيلحق أضرارًا جسيمة على مختلف قطاعات الاقتصاد البريطاني، وعلى رأسها قطاع الخدمات الذي يمثل أحد الأعمدة الرئيسية لبريطانيا، حيث ستؤثر عملية الخروج على قطاع الخدمات المصرفية بشكل كبير، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تراجع مكانة لندن كواحدة من أهم المراكز المالية داخل القارة الأوروبية، التي تسمح للبنوك ببيع الخدمات في السوق الموحدة، دون الحاجة إلى المزيد من التراخيص.
كما أن وقوع بريكست بلا اتفاق يعني إخضاع تعاملات بريطانيا التجارية مع الاتحاد الأوروبي لشروط “منظّمة التجارة العالمية” وهو ما يعني فرض رسوم جمركية مرتفعة وتشديد الرقابة الجمركية في العلاقات التجارية بين الطرفين، وسيؤدي بدوره إلى تحميل أعباء على الشركات البريطانية ذات الصادرات الكبيرة إلى أوروبا والتي كانت تستفيد من المميزات التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة، ما قد يؤدي إلى تقليص فرص الاستثمار ويخاطر بانتكاسة في الركود للاقتصاد البريطاني.
وفي ضوء أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة، فقد توقعت تقارير اقتصادية ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة من أوروبا نتيجة فرض التعريفة الجمركية المرتفعة، وهو ما سيؤثر سلبا على القوة الشرائية للمواطنين، خاصة فئة محدودي الدخل.
وتأتي الموجة الثانية من فيروس كورونا لتزيد الأوضاع سوءًا على الساحة البريطانية، فإلى جانب إجراءات الغلق التي أضرت باقتصاد البلاد بمختلف فئاته، وجّهت الحكومة البريطانية خلال الشهور القليلة الماضية نداءً إلى مورّدي الأدوية في المملكة المتّحدة، تناشدهم فيها بتخزين الأدوية -حتى لو كانت باهظة الثمن- استعدادًا لاحتمال عدم التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية العام، وذلك بعد تحذير من الشركات بعدم إمكان تخزين أدوية كافية بسبب وباء كورونا.
على هذا النحو يعتبر المراقبون أن وقوع بريكست دون اتفاق سيمثل صدمة كبيرة للاقتصاد البريطاني بمختلف مجالاته خاصة في ظل الأضرار التي يعاني منها بالفعل نتاج “كورونا” ويرجح بعضهم إمكانية قيام جونسون في اللحظة الأخيرة بإبرام اتفاق مع الجانب الأوروبي وتقديم تنازلات بشأن القضايا العالقة، على غرار ما قام به العام الماضي عندما هدد بالانسحاب من دون صفقة، ليظهر أنه نجح في تحقيق “النصر الكبير”، وينقذ بلاده من تداعيات كارثية قد تكون عواقبها ليست ثقيلة فقط بل وممتدة الأثر أيضًا.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)