رغم حالة ظاهرة من التشاؤم بين المثقفين الغربيين جراء تصاعد اليمين المتطرف وتزايد خشونة السرد السياسي الشعبوي فلعلها ظاهرة إيجابية ان الرأي العام الثقافي في الغرب يرفض ويعارض في أغلبه قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ونظرة للصحافة الثقافية الغربية والمنابر والوسائط الثقافية المهمة في الغرب تظهر فوراً وجود اتفاق عام بين المثقفين على خطورة هذا القرار وتداعياته مع التأكيد انه بمقتضى مباديء القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ممثلة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لايجوز إجراء أي تغيير في القدس الشرقية باعتبارها تحت الاحتلال.
واعتبرت مثقفة أمريكية بارزة مثل الكاتبة والباحثة روبين رايت في طرح بمجلة “نيويوركر” ذات المضمون الثقافي الرفيع المستوى أن “الخطوة التي أقدم عليها ترامب مؤخراً انما تخرب ما يتبناه من أفكار بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط”.
وأضافت رايت وهي صاحبة عدة كتب عن منطقة الشرق الأوسط وقضايا العالم الإسلامي أن ترامب باعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعتزامه نقل السفارة الأمريكية للمدينة “خرج على كل ما التزمت به الإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين على مدى نحو 70 عاما”.
وبذلك يشكل قرار ترامب خروجاً سافراً على قواعد استقرت في الثقافة السياسية الأمريكية بقدر ما ضرب عرض الحائط بنداءات وجهتها شخصيات تنتمي للديانات السماوية الثلاث لعدم الاقدام على هذه الخطوة ومن بينها –كما توضح روبين رايت-مجموعات أمريكية يهودية.
وفي تناولها الذكي لهذا القرار ، قالت رايت إنه كان بوسع ترامب أن يفعل ماهو افضل بكثير لو اقترح مثلاً كحافز لاتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني ” نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس الغربية وافتتاح سفارة أمريكية جديدة بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة وبذلك يكون قد قدم جائزة أمريكية ترضي الطرفين معا لكنه اختار بدلاً من ذلك توجيه ضربة للسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط”.
وبمداد متشائم خلصت هذه المثقفة الأمريكية الى أن “آفاق السلام في الشرق الأوسط باتت أبعد عما كان عليه الحال قبل نحو عشرة أشهر عندما دخل دونالد ترامب البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة”.
وقد يبلغ التشاؤم مبلغه مع ما كتبه الروائي الأمريكي الكبير جوناثان فرانزن في معرض تقييمه لدونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة بعد نحو عام واحد من انتخابه حيث رأى أن “الوقت بات متأخراً جداً لإنقاذ العالم”.
وبشدة انتقد صاحب روايات شهيرة في الأدب الأمريكي والعالمي مثل “التصحيحات” و”حرية” و”نقاء”؛ مواقف دونالد ترامب حيال قضايا تهدد الكوكب الأرضي مثل تغير المناخ والاحتباس الحراري فيما يحظى ما يكتبه جوناثان فرانزن باشادة المعلقين في الصحافة الثقافية الغربية معتبرين انه “يعبر عن دور المثقف في أوقات الأزمات والشدائد”.
ولئن كانت مثقفة فلسطينية بارزة هي الدكتورة حنان عشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد رأت أيضا في طرح بصحيفة “نيويورك تايمز” أن الرئيس الأمريكي يرتكب خطأ كبيراً في حق القدس ويخرج على ما درجت عليه سياسات الولايات المتحدة واستقرت عليه لقرابة ال 70 عاما حيال هذه المدينة بكل رمزيتها، فإن هناك من المثقفين في الغرب من يحاول تفسير مثل هذا الخروج في كتب جديدة .
وفي كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان “أمريكا البديلة: صعود اليمين المتطرف في عصر ترامب”؛ يعيد المؤلف ديفيد نيويرت للأذهان أن أحد أسباب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي جعلت منه “الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة”، يتمثل في تأييد ما يعرف “بالتيار المسيحي الصهيوني المنتمي لأمريكا البيضاء”؛ وهو تيار يتبنى رؤى عقائدية داعمة بشدة لتهويد القدس كعاصمة لإسرائيل التوراتية، غير أنه يلقى معارضة من جانب المثقفين الليبراليين الأمريكيين ومن بينهم من ينتمي لعائلات يهودية.
كما يوضح الكاتب ديفيد نيويرت أن اليمين العنصري المتطرف والذي تنامى في الولايات المتحدة منذ بدايات العقد الأخير للقرن العشرين يشكل قاعدة داعمة لدونالد ترامب كما شكل قاعدة انتخابية له حسمت فوزه في الانتخابات الرئاسية رغم أن الحزب الجمهوري ذاته كان متردداً في ترشيحه في تلك الانتخابات التي أجريت يوم الثامن من نوفمبر في العام الماضي.
ويأتي قرار ترامب بشأن القدس ليثير المزيد من المخاوف القائمة أصلاً لدى قطاع عريض من المثقفين في الغرب ومن بينهم مؤلف هذا الكتاب ديفيد نيويرت جراء توجهات القوى التي تقف خلف إدارة دونالد ترامب وتبني دعاوى عنصرية فجة لاحياء أسطورة تفوق العرق الأبيض وخطاب الكراهية حيال “أمريكا السوداء ناهيك عن المهاجرين المكسيكيين ووصم الثقافة المكسيكية بأنها منحرفة فضلا عن القادمين من العالمين العربي والإسلامي”.
وحتى لو لم يكن دونالد ترامب ذاته يؤمن بكثير من هذه الدعاوى ذات الطابع العنصري الفج، فالاشكالية تكمن في احتياجه سياسياً لدعم القوى والتيارات التي تتبنى مثل هذه الدعاوى وبعضها تروج لما يعرف “بالاسلاموفوبيا” أو بث مشاعر الخوف والكراهية والتحامل على المسلمين؛ فيما يرى ديفيد نيويرت أن جوهر ظاهرة اليمين الشعبوي المتطرف “ثقافي أكثر مما يعود لأسباب اقتصادية”.
وفيما تتحدث وسائل الاعلام عن شخصيات تنتمي لليمين الأمريكي المتطرف ، مارست ضغوطاً على ترامب لاعلان قراره المثير للجدل بشأن القدس يظهرعلى شاشات التلفزة الغربية مثقفون ومبدعون من أصحاب الحضور في الغرب الثقافي رافضين هذا القرار.
ومن هؤلاء المثقفين في الغرب الكاتب والفنان الكوميدي الأمريكي ستيفن كولبيرت الذي سخر من قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل بقدر ما حذر بجدية من خطورة تبعات وعواقب هذا القرار على مفاوضات السلام لحل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني واستعادة السلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ، بينما اعتبر زميله الكاتب والممثل الساخر القادم من جنوب افريقيا تريفور نواه ان تنظيماً إرهابياً مثل داعش هو المستفيد من هذا القرار.
أما الطريف حقاً فهو ما ذكره الكاتب والممثل الأمريكي الكوميدي اندي بورويتز في مجلة “نيويوركر” تعليقاً على قرار ترامب بشأن القدس وهو أن “أغلب الأمريكيين يؤيدون انتقال دونالد ترامب نفسه للقدس بعيداً عنهم بينما لاتمانع نسبة أقل في انتقاله الى بلدان مثل روسيا أو الفلبين أو حتى القطب الجنوبي”.
وواقع الحال أن العلاقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبين المثقفين في بلاده لم تكن أبدا جيدة فيما سادت مشاعر الصدمة والمرارة بين الكثير من المثقفين الأمريكيين حيال نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ نحو عام واحد.
فأغلب المنابر والدوائر الثقافية الأمريكية تناهض توجهات ترامب واليمين الشعبوي المتطرف وبعد انقشاع دخان المعركة الانتخابية عبر مثقف أمريكي كبير مثل بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008 عن مشاعر العديد من المثقفين في بلاده ليصف فوز ترامب “بالصدمة المروعة” فيما يطرح السؤال باستمرار بين المثقفين الأمريكيين: “ما العمل الآن؟”.
ويقول كروجمان أن هذا السؤال الكبير مطروح على المنتمين لكل الأطياف الأمريكية ، وبدا هذا النوبلي الأمريكي “ممرورا بشدة” حيال فوز ترامب الممثل لليمين المتشدد في الانتخابات الرئاسية لحد تحذيره من “غواية الاستسلام لوهم أن اليمين المتشدد يمكن أن يمتلك رؤية للعالم تنطوي على شييء من الحقيقة أو بعض الصدق”، مشدداً على أن “الأكذوبة تبقى أكذوبة مهما كانت القوة التي تدعمها”.
وضرب بول كروجمان أمثلة لما يصفه بالأكاذيب في الدوائر المحيطة بترامب ومن بينها الزعم بأن الاتفاق العالمي لحماية المناخ والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري “خدعة صينية”، أو الزعم بأن الولايات المتحدة أعلى دولة من حيث فرض الضرائب على مستوى العالم.
وفيما يرى كروجمان أن إدارة ترامب تلحق أضراراً فادحة بالقوة الناعمة للثقافة الأمريكية وبعيدة عن الاستقامة الثقافية سواء في الداخل أو على مستوى العالم تتواصل النبرة المتشائمة لهذا المثقف الأمريكي الكبير والتي تعبر عن شعور سائد بين العديد من الدوائر الثقافية الأمريكية والغربية ككل.
إنها حقا لحظات كونية قلقة فهل ينتصر صوت الحكمة والحوار والتسامح والأمل أم تجلس الكآبة على مقعد بحجم العالم لتكون الانسانية على موعد مع رحلة جديدة للمرارات والألم؟
المصدر: أ ش أ