مع اقتراب موعد انعقاد الجلسة الثالثة للحنة الدستورية السورية الأسبوع المقبل، عقب انتهاء الجولة الثانية من الاجتماعات في جنيف دون التوصل لنتائج إيجابية ملموسة، باتت التساؤلات المطروحة تدور حول مآلات عمل هذه اللجنة وارتباطها بفكرة المقايضات الدائرة بين ضامني آستانة وهم روسيا وتركيا وإيران، وبين مصالح دول مسارات جنيف، وحدود الدور الروسي في حسم عمل اللجنة، بعد تشابك علاقاتها مع تركيا من جانب والنظام السوري من جانب آخر.
انطلقت أعمال اللجنة في بداية نوفمبر 2019 بعد الاتفاق بين دمشق و”هيئة التفاوض السورية” المعارضة على قائمة أعضاء اللجنة الـ150 والقواعد الإجرائية، وكان هذا أول اختراق سياسي منذ 2011، حيث اعترف كل طرف منهما بالآخر سياسياً.. أما الاختراق الثاني، فكان باتفاق الوفدين في نهاية الجولة الأولى على “مدونة سلوك” وتشكيلة اللجنة المصغرة التي تضم 45 عضواً لصوغ مسودات الإصلاحات الدستورية.
لكن الجولة الثانية من الاجتماعات انفضت، دون التوصل لقرارات نهائية على أي صعيد، وبدت في الأفق خلافات يعتقد المراقبون أنها شكلية بين روسيا ودمشق ولكنهم في الجوهر يتفقون على نقاط محورية في استمرار عمل اللجنة.
يرجع ذلك إلى أن الوفد الحكومي الذي أصبح يسمى في دمشق أنه “الوفد الوطني” أصر على إقرار “مرتكزات الوطنية” ، وشملت رفض التدخل التركي والأمريكي والإرهاب والعقوبات الغربية، وأطلق في دمشق على الوفد الآخر أنه “وفد النظام التركي”.
وحمّلت واشنطن ولندن و”هيئة التفاوض”، سوريا مسؤولية تعطيل عمل اللجنة واقترحت فتح بنود أخرى في القرار 2254 (مثل البيئة المحايدة والسجناء)، في حين ردت الحكومة السورية بإدانة التدخل الأمريكي بعمل اللجنة القائم على مبدأ الحوار السوري – السوري والسيادة السورية بموجب القرار 2254.
وحاول المبعوث الأممي لسورية التوصل معهما لدفعهما إلى التوافق، لكن ذلك لم يحدث، وأثار هذا الفشل خوفاً من انهيار العملية التي ترعاها الأمم المتحدة وتعتقد الدول المعنية بالقضية السورية أنها ستكون المدخل للحل السياسي المنشود.
توافق المضمون بين موسكو ودمشق
ولإعادة الأمل في عمل اللجنة الدستورية السورية، عقد المبعوث الأممي غير بيدرسن مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في روما لقاء مهماً، بدا فيه التوافق في المضمون بين وجهتي النظر الروسية والسورية في المحاور التالية:
أولها: تأكيد موسكو في بيان الخارجية الروسية على “رأي مشترك حول المساهمة في إقامة حوار مستدام ومثمر بين السوريين من دون تدخل خارجي وفرض قيود زمنية لتطوير مثل هذه المقترحات الموحدة حول الإصلاح الدستوري، التي ستلقى أكبر دعم من طرف الشعب السوري”.
ثانيها: كان لقاء لافروف – بيدرسن بمثابة تجاوز للانتقادات التي كان وجهها وزير الخارجية الروسي للمبعوث الأممي ومكتبه في الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي، حيث أكدت روسيا ثبات موقفها الرافض لأي جدول زمني لعمل اللجنة ورفض تدخل الأطراف الخارجية؛ أي أن دور المبعوث الأممي، هو ميسر لعمل اللجنة.
هذا الموقف الروسي يقترب من الموقف السوري، الرافض لوضع جدول زمني لعمل اللجنة والتمسك بأن بيدرسن ميسر لعملها، علماً بأن القرار 2254 نص على ضرورة أن يكون ذلك ضمن 6 أشهر قبل تنفيذ العملية السياسية أو الانتقال خلال 18 شهراً.
ثالثها: رغم الانتقاد السوري بأن اجتماعات اللجنة في جنيف لا تتعدى الإطار الجغرافي من دون أي محتوى سياسي أو شرعية أممية، وهو انتقاد مبطن يشر إلى مرجعية عمل اللجنة، إلا أن موسكو لا تزال توازن بين الحفاظ على عملية جنيف لأسباب تخص علاقاتها الدولية واللعبة الكبرى مع الأمريكيين والأوروبيين من جهة، ومن جهة أخرى مسار سوتشي – آستانة للحفاظ على شريكتيها الإقليميتين؛ تركيا وإيران، إضافة إلى وجود تعاون عسكري كبير بين موسكو وأنقرة في شرق الفرات وإدلب.
ويرى مراقبون أن روسيا باتت هي المحرك الأول لعمل اللجنة من خلال دورها المحوري والفاعل في مسار الأزمة السورية برمتها، وقد أكد البيان الروسي الصادر عن لقاء لافروف – بيدرسن أن الجانبين بحثا بشكل موسع “الوضع على الأرض”، في ضوء ضرورة استعادة وحدة الأراضي السورية مع أخذ مصالح كل المجموعات العرقية والدينية في الاعتبار، في إشارة فهم منها رسالتان: الأولى لتركيا حول عدم جواز استمرار وجودها طويلا في شمال سوريا، والثانية للنظام السوري تحضه على ““إبداء مرونة أكبر” في المفاوضات مع الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا وشرقها.
وكانت روسيا قد مارست في وقت سابق ضغوطا على النظام السوري ليوافق على تشكيل اللجنة الدستورية وعقد اجتماعاتها، ولكن موسكو الآن تتجه نحو “تسهيل عمل اللجنة في اجتماع جديد يحدد في موعد أقصاه منتصف ديسمبر الجاري بعد جولة مفاوضات أستانة المقبلة في العاصمة الكازاخية “نور سلطان”.
ولفت مراقبون إلى أن موسكو منزعجة من محاولات الرئيس السوري بشار الأسد المتكررة للتقرب إلى إيران كي يخلق نوعا من التوازن للإفلات من الضغوط الروسية، وتخفيف نفوذ موسكو المتزايد في سوريا، ما دفعها إلى توجيه انتقادات مبطنة لتذكير الأسد بدور الكرملين في حمايته واستمراره، إضافة إلى تشجيع الحراك الرافض للتغلغل الإيراني في مناطق سوريا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
وأشار المراقبون إلى أن إيران تسعى إلى التحرك بقوة لتثبيت مواقعها بعد التفاهمات الروسية الأمريكية الإسرائيلية الخاصة بعدم تمكين طهران من التموضع عسكريا في سوريا، وعدم تنديد موسكو بالغارات الإسرائيلية على مواقع ميليشيات إيرانية والاكتفاء بالإشارة إلى أن هذه الغارات “خطوة خاطئة”.
في الوقت ذاته تتعمق الخلافات بين موسكو وطهران مع استبعاد الأخيرة من تفاهمات مع تركيا في شمال سوريا وشرقها، إضافة إلى استعجال إيران حسم الأوضاع في إدلب بأسرع وقت.
وفي حين تسعى طهران إلى استغلال دعمها النظام السوري عسكريا واقتصاديا من أجل الحصول على قواعد عسكرية برية وبحرية دائمة ترفض موسكو بشدة مخططات إيران، ولا يستبعد خبراء أن تكون الضربات الإسرائيلية قد حظيت بمباركة موسكو الراغبة في “تقليم أظافر” إيران وميليشياتها في سوريا.
وعلى رغم تنظيم دوريات مشتركة بين تركيا وروسيا في شمال سوريا وفقا لاتفاق سوتشي الموقع في أكتوبر الماضي، تواصل تركيا توجيه رسائل حول عدم التزام الجانب الروسي بالاتفاق، والتلويح باستئناف عمليتها العسكرية ضد الأكراد.
في المقابل ، تواصل روسيا الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتولت عمليا الإشراف على عدد من المدن الكبيرة بموجب اتفاقات معها، ما يغضب تركيا التي لم تكن تتوقع أن تنتشر روسيا عسكريا بهذه الكثافة وتسيطر على قواعد أخلتها الولايات المتحدة، وتواصل التنسيق مع الأكراد.
يبقى القول إن مستقبل عمل اللجنة الدستورية السورية ومسيرة عملها مرتبط بالتطورات السياسية على أرض الواقع وصراع المصالح والنفوذ بين القوى المعنية بإدارة الأزمة السورية، والمقايضات التي تحدث في أرض الواقع بين مفاوضات جنيف، ومسارات آستانة ومصالح ضامنيها ومدى التوافق والتناقض بين مصالحها.
المصدر : أ ش أ