كتبت صحيفة القدس عن خطاب كيري تقول : وأخيرا، أجملت إدارة أوباما رؤيتها لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وقد إنقسم حولها كل من الفلسطينيين والإسرائيليين، فمن ناحية الإسرائيليين فإن التيار القومي والديني المتطرف والحاخامي والعنصري، إعتبر أن هذه الرؤية “غير ديموقراطية” و “غير واقعية” و “منحازة ضد اسرائيل”، واتهم هذا التيار اوباما بانه تَقَصدَ إهانة وعزل ومحاصرة إسرائيل، كما اتهم كيري نفسه بانه “مهووس”، أما التيار اليساري أو ما بقي منه وكذلك ما بقي من حزب «العمال» والمنافسين لنتنياهو أو الطامعين في خوض السباق الإنتخابي، فقد رأوا في خطاب كيري انه “يُذكر إسرائيل بضرورة إنهاء الإحتلال” وأنه “نتيجة سياسات نتنياهو التدميرية” وأنه أيضا “مناسبة جيدة لإنقاذ إسرائيل من نفسها”.
هذا من ناحية الإسرائيليين، أما من ناحية الفلسطينيين، فهم كذلك إنقسموا حول هذا الخطاب، فهناك تيار وصف الخطاب بأنه “لا يشكل سقف المطالب الفلسطينية” و “انه لا يرقى إلى ما قررته الشرعية الدولية لحل الصراع” و “أنه يمرر نقاطا مرفوضة من قبل الفلسطينيين”، فيما وصفه تيار آخر بأنه “خطاب جيد يمكن البناء عليه” وأنه “يتفق مع الرؤية الفلسطينية للحل”, هذا فضلا عن ترحيب عام من مختلف الأطراف العربية.
وفي هذه المقالة، أحاول أن أقدم قراءة هادئة للخطاب الذي كان ذروة الرؤية الأميركية للتسوية منذ عام 1967، فهو خطاب فيه وضوح وتفصيل لم نلحظه من قبل، وفيما يلي أقدم هذه الملاحظات على الخطاب:
الملاحظة الأولى: ان الخطاب جاء نتيجة إيمان الإدارة الأميركية الحالية بأن المخرج الوحيد لأزمة إسرائيل الوجودية والعسكرية والثقافية والسياسية هو إقامة دولة فلسطينية، بإعتبار أن هذه الدولة ستجنب إسرائيل مصير جنوب افريقيا، وستجنبها العزلة والحصار، وستجنبها عدم القدرة على حمايتها أو تغطيتها أمنيا وسياسيا. أي أن حل الدولتين – كما يسمى – هو قارب نجاة لنظام عسكري مأزوم حتى أذنيه.
إن كلام كيري حول يهودية الدولة وديموقراطيتها وعدم إمكانية الجمع بينهما إنما يعني أن على إسرائيل أن تختار بين اللاهوية وبين الهوية، بين دولة منسجمة وبين دولة عليها تحمل عبء الاحتلال الأبدي. كيري، بهذا المفهوم، يقدم جوابا للجدل المستعر حتى في إسرائيل حول يهودية الدولة وديموقراطيتها.
كيري، إذن، يوجه خطابه للجمهور والنخب الإسرائيلية، ليحسم هذا الجدل، باختيار يهودية الدولة الديموقراطية، وهذا لا يمكن أن يكون دون إنهاء الإحتلال.
الملاحظة الثانية: إن طلب كيري من الفلسطينيين الإعتراف بيهودية الدولة، إنما يخضع للمطالب الإسرائيلية، التي هي في حقيقة الأمر مجرد ذريعة لعدم التوصل لأية تسوية، فلماذا نعترف بيهودية الدولة إذا كانت منظمة التحرير قد إعترفت بدولة إسرائيل. فليس المطلوب منا أن نعترف بفرنسا كاثوليكية أو اليونان أرثوذكسية، بعد أن إعترفنا بدولة إسرائيل حسب البروتوكولات الموقعة في أوسلو، فإن من حق إسرائيل أن تعلن عن نفسها ما تريد، ولا شأن لنا بهذا الأمر إطلاقا، أما أن نعترف بيهودية الدولة فهذا مخالف حتى للواقع، فإسرائيل تضم مسلمين ومسيحيين ودروزا ولا دينيين، والأهم من ذلك، لماذا لم يطلب منا أن تكون التسوية على هذا المستوى الروحي والثقافي، إذ يعني هذا الأمر أن نعيد كتابة التاريخ، وهذا طلب يتحول إلى أن يكون تعجيزيا، ومن يطلب هذا الطلب إنما يريد تعقيد الأمر وتصعيبه إلى درجة أنه لا يحصل.
الملاحظة الثالثة: إن الأفكار الواردة في الخطاب لا تنطبق في بعضها مع ما حصلنا عليه في القرارات الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فالمستوطنات غير شرعية حسب القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن رقم 2334، ويجب إزالتها أو تفكيكها أو أن يتم الاتفاق بشأنها عن مبدأ عدم شرعيتها، وهو ما ينطبق على مبدأ التبادل أيضا، فنحن هنا نتكلم عن وطن لا عن عقارات.
وهو ما ينطبق أيضا على عودة اللاجئين المكفولة حسب القرارات الشرعية، فما ذكره كيري حول اللاجئين يحتاج إلى مراجعة معمقة. المقصود هنا أن افكار كيري ليست سقفنا ولا ترقى اليه، كما أنها منخفضة إلى حد كبير عن قرارات الشرعية الدولية. وهذا يقودنا إلى الملاحظة الرابعة.
الملاحظة الرابعة: أهم ما جاء في خطاب كيري برأيي يتمثل بتأكيده أن الإحتلال يجب أن ينتهي، أي، وبعد خمسين سنة من إحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والعربية، يجد أكبر حليف لإسرائيل أن هذا الإحتلال لم يعد يجدي ولم يعد يحمي ولم يعد ينفع، وأن أفضل طريقة لإنهاء الأزمة العالمية هو إنهاء هذا الإحتلال. وكلام كيري ليس كلاما عابرا أو بدون أهمية أو أنه أتى في الوقت الضائع أو أن ترامب سيتجاوزه أو يمحوه أو يتجاهله، هذا كلام غير دقيق، ان كلام كيري يتحول فعلا إلى أن يكون أحد أهم أعمدة التسوية السياسية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولأن الأمر كذلك، فإن هذا يفسر جنون إسرائيل بعد مواقف إدارة أوباما الأخيرة.
الملاحظة الخامسة: كلام كيري عن إنهاء الإحتلال يقابله الإعتراف بالفلسطينيين، كشعب وأفراد، والإعتراف بمأساتهم والظلم التاريخي الواقع عليهم، وحقهم في دولة، بعد كل هذا الإهمال والتجاوز للشعب الفلسطيني وحقوقه.
إن تأكيد كيري على هذا الحق، إنما يقدم دفعة كبيرة وزخما هائلا لمؤتمر باريس الذي سيعقد في منتصف شهر كانون الثاني من العام الجديد، إن ما قاله كيري سيتم توظيفه في إنجاح مؤتمر باريس وربما – بضغط عربي ودولي – قد يقترح هذا المؤتمر أجندة عملية للبدء بعملية سياسية تؤدي إلى نتائج.
الملاحظة السادسة: إن كلام كيري هو إنتصار سياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية ولسياسة الرئيس محمود عباس، الذي استطاع بالصبر والرأب وإدارة معارك الاشتباك السياسي على الساحات الدولية والإقليمية أن يستصدر عددا من القرارات الدولية الأكثر أهمية في تاريخ الصراع (فتوى محكمة لاهاي، قرار اليونسكو بعدم أحقية اليهود بالقدس، قرار مجلس الأمن 2334، رؤية كيري الأخيرة). هذه النجاحات التي تسجل للرئيس عباس، تدفعنا إلى توجيه التحية والإكبار لسياسته الصبورة والتي إستطاعت أن تطرح القضية الفلسطينية مرة أخرى على الأجندة العالمية.
الملاحظة الاخيرة: الآن، بين أيدينا قرارات ومبادرات وأمامنا مؤتمر دولي، فأرجو من كل قلبي أن لا نضيع هذه الفرص، وأن نوحد رؤيتنا وعملنا وأدواتنا لتحويل كل ذلك إلى أفعال حقيقية على الأرض، فمن العيب ومن العار أن يقف العالم إلى جانبنا ثم نحول كل ذلك إلى هباء. وهذه دعوة إلى تشكيل جبهة عربية موحدة تجعل مما حصل أساسا للعمل الديبلوماسي والميداني بحيث لا يمكن لأية إدارة أميركية قادمة قادرة على القفز عن كل ذلك.