إرث إنساني عتيق تحمله القاهرة، ظل لسنوات طويلة يُنظر إليه بعين الأسى والقلق من قبل المهتمين بالتراث في مصر، خاصة أن أجزاء عديدة من المدينة التاريخية طالتها يد الإهمال والهجر، إلا أن إعلان تطويرها مؤخرا بعث الأمل من جديد.
وأعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، السبت، أن الحكومة قررت نفض الغبار عن المدينة العتيقة، والبدء في خطة تطوير لسبع مناطق بالقاهرة التاريخية.
ومن المتوقع أن تبدأ بعد أسابيع، على أن تنتهي قبل 3 سنوات، بحسب ما قال رئيس المجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري في تصريحات صحفية.
وخلال الحوار المجتمعي، الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي من أجل تطوير منطقة القاهرة التاريخية، استعرض مدبولي مقترحات تطوير المنطقة، التي تقدم بها أثريون ومعماريون.
وتطوير المنطقة لن يتوقف عند الآثار فقط، بل يمتد للحفاظ على النسيج العمراني بأكمله.
رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية أسامة طلعت يكشف جانبا من تفاصيل المشروع، فيقول: “إن الآثار الموجودة بالقاهرة التاريخية هي جزء من عملية التطوير التي تشمل المنطقة بأكملها”، مؤكدا أن المجلس الأعلى للآثار قدم للاستشاريين كل المعلومات التي تساعدهم في الدراسات الأولية للمشروع.
ويشير طلعت إلى أن بداية المشروع جاءت بتوجيه رئاسي، حفاظا على القاهرة التاريخية التي تعرضت لإهمال متراكم عبر عقود طويلة”.
ويشدد طلعت على أن الدولة وضعت ثوابت أساسية قبل عمل الدراسات الهندسية، على رأسها، الحفاظ على النسيج العمراني، ومنع إزالة أو تهجير أهل هذه المنطقة، وكذلك الحفاظ على الحرف اليدوية والأنشطة التجارية، لافتا إلى أن أعمال تطوير القاهرة التاريخية عبارة عن رفع كفاءة المنطقة وتطويرها فقط”.
ويوضح طلعت أن رئيس الوزراء أعلن إنشاء كيان مؤسسي؛ يتم من خلاله إدارة منطقة القاهرة التاريخية بشكل موحد، مشيرا إلى أن ذلك يُسهم في الحفاظ على هذه المنطقة باعتبارها ممتلك ثقافي مهم.
ويتابع: “هذا الكيان سيكون مسؤول عن كل التفاصيل الإدارية التي تخص المنطقة، وسيكون على تواصل مع اليونسكو بشكل مباشر”.
وعن مصادر تمويل المشروع، يلفت طلعت إلى أن تمويل المشروع متوفر من الميزانية العامة للدولة، مشيرا إلى أن كافة تفاصيل التمويل لدى وزارة المالية.
وخلال الاجتماع الأخير مع رئيس مجلس الوزراء استعرض عدد من المعماريين المصريين مقترحاتهم لتطوير المنطقة التاريخ، تحدث موقع سكاي نيوز عربية إلى بعضهم لاستجلاء تفاصيل التطوير المقرر البدء في تنفيذه خلال أسابيع.
“انطلقت عملية تطوير القاهرة التاريخية بعد عرض مشروع توسعة وتحسين مسجد الإمام الحسين، وتوجيه الرئيسي بتعميم المشروع”، هكذا بدأ صلاح زكي، أستاذ العمارة بجامعة الأزهر، حديثه عن مقترح مشروع خان الحسين، الذي تقدم به مؤخرا.
ويضيف زكي أن بعد عرض مشروع تطوير المسجد على الرئيس السيسي، طالب المسؤولين بتطوير المنطقة السكنية المحيطة بالمسجد، ليكون هذا المشروع اللبنة الأولى التي وضعت في مقترحات تطوير منطقة القاهرة التاريخية بأكملها.
وأثناء اجتماع رئيس مجلس الوزراء الأخير استعرض صلاح زكي مقترحه الخاص بمشروع تطوير وترميم المنطقة السكنية حول مسجد الحسين، والمعروف باسم “خان الحسين”، والذي سينفذ على مساحة 15 فدانا.
ويضم مشروع خان الحسين للحرف اليدوية، فندقا 4 نجوم، ومنطقة بازارات، ومطاعم، ومنطقة مدرسة حرفية للتعليم والتدريب على الحرف اليدوية، لإحياء هذه الحرف، على غرار مدرسة بيت جميل بالفسطاط، إلى جانب فندق المسافر خانة.
ويشير زكي إلى أن عملية الترميم تشمل 35 بيتا تراثيا بالحجر، إضافة إلى معالجة واجهات نحو 200 منزل حديث البناء؛ حتى تتواكب مع الروح التراثية التي تتميز بها المنطقة، وفي هذا السياق أشاد أستاذ العمارة بقرار رئيس مجلس الوزراء بإيقاف أي عملية بناء أو هدم داخل منطقة القاهرة التاريخية.
المعمارية المصرية مي الإبراشي، منسق مبادرة “الأثر لنا”، تقدمت هي الأخرى بمقترح تطوير منطقة الحطابة داخل القاهرة التاريخية.
وتقول إن رئيس مجلس الوزراء وضع مجموعة من الأسس يجب مراعاتها أثناء عملية التطوير، من بينها؛ الحفاظ على النسيج العمراني ككل، وليس الآثار فقط، وكذلك الحفاظ على المباني ذات الطابع التراثي حتى لو لم تكن مسجلة.
وفي حديثها لموقع “سكاي نيوز عربية” أشارت الإبراشي إلى أهمية منطقة الحطابة، التي تتميز بتاريخ شفهي غني، يربط المنطقة بطريق الحج.
وتضم 6 مباني أثرية مملوكية وعثمانية، إلى جانب 25 مبنى تاريخي وديني مميز، كما تضم 67 ورشة حرفية أغلبها يدوي، ومركز صناعة منتجات تطعيم الصدف بالقاهرة، ومشاركة قوية للنساء في حرفة الخيامية
وكشفت الإبراشي ملامح المشروع، الذي بدأت المناقشات حوله مع الحكومة منذ عام؛ إذ يتضمن مسار سياحي من باب القلعة ومقهى الشيخ شاهين لمنطقة آثار بها متاحف تحكي تاريخ المنطقة مروراً بمجمع فنادق ومركز تطوير الحرف والممشى السياحي ومطعم 7 نجوم بالنظامية.
ويستهدف المشروع إنشاء مجمعات حرفية للصدف والخيامية والنجارة، بها خدمات مثل: وحدة الإسعاف الطبي ورعاية أطفال وخدمات نجارة وسوق محلي، مع إعادة بناء الأراضي الفضاء والمباني الخربة كمباني سكنية، حرفية، وتجارية بالتعاون مع السكان وترميم المباني التاريخية، وكذلك تحسين الفراغ العام بإنشاء مناطق خضراء ورصف وإنارة وتحسين الواجهات.
منطقة أخرى بالقاهرة التاريخية هي درب اللبانة تدخل على خط التطوير، وقدمت الدكتورة “ناييري همبيجيان”، مشروع لتأهيل وإحياء منطقة “درب اللبانة”، أثناء اجتماع الخبراء مع رئيس مجلس الوزراء.
وتقول همبيجيان لموقع “سكاي نيوز عربية” إن علاقتها بالمشروع بدأت منذ ثلاث سنوات، عندما استعان بها مستثمر لتطوير 6 بيوت أثرية، ثم طورت بعد ذلك مقترح لمنطقة درب اللبانة بالكامل، وأجريت رسومات ومخططات هندسية اعتمدت في جزء منها على تقنية (Facadism) أو الواجهاتيّة.
وتوضح استشاري العمارة أن مصطلح (Facadism) الواجهاتيّة أو عمارة الواجهات هي نظريّة وممارسة معماريّة أو إنشائيّة تشير إلى الحفاظ المعماري على واجهات المباني القديمة بوجود مباني جديدة أُقيمت وراءها أو حولها، للحفاظ على تراث وتاريخ المكان.
وأعربت همبيغيان عن سعادتها بتأكيد رئيس الوزراء على رفض تهجير الأهالي، مؤكدة أن منطقة درب اللبانة موجودة، قبل أكثر من 200 عام، بتخطيطها الحالي في خرائط وصف مصر، وكذلك معظم مناطق القاهرة التاريخية، لافتة إلى ضرورة الحفاظ على أصالتها.
ويهدف مخطط المعمارية المصرية إلى إنشاء مسار سياحي وأثري وثقافي للمنطقة، يتضمن إعادة استخدام بعض المباني لتصبح مزارات سياحية وفنية ودينية، إلى جانب المسار التعليمي والثقافي الذي يشمل مركزاً لعرض الأفلام الوثائقية.
أيضًا يضم المشروع مناطق خدمات، ومسار آخر ترفيهي وتجاري وسكني، ومسار سياحي، ومسار للخدمات المجتمعية يحتوى على أسواق ومقاهٍ ومطاعم، ومنافذ بيع، وحديقتين ترفيهية وعامة، وأماكن انتظار للسيارات.
ومنذ أكثر من ألف عام، ومدينة القاهرة تتقلب بين حضارات وحكام من ثقافات مختلفة؛ سكن إليها بشر من كل الأعراق والأجناس، وترك الجميع أثره وبصمته، لتتشكل في الأخير “القاهرة التاريخية” التي نعرفها اليوم بكامل بهائها وسحرها.
فإلى جانب ما بقي فيها من آثار تعود إلى عصور قديمة، تحفل المدينة أيضًا بنماذج معمارية فريدة، تعتبر نموذجا للعمارة الإسلامية؛ إذ تجمع بين جنباتها عددًا من الآثار من عصور: الأمويين، الطولونيين، الفاطميين، الأيوبيين، المماليك، والعثمانيين، وصولا إلى عصر محمد علي وأسرته.
وتتضمن منطقة القاهرة التاريخية مناطق الفسطاط ومصر العتيقة والمنطقة الوسطى التي تشمل القطائع والمدينة الملكية الطولونية، ومنطقة القلعة والدرب الأحمر والنواة الفاطمية وميناء بولاق وجامع الجيوشي.
وأُدرجت المنطقة على قائمة التراث العالمي عام 1979، بناء على توصية المجلس الدولي للآثار والمواقع (إيكوموس).
المصدر : سكاى نيوز عربية