شكل مدينة العريش مع غيرها من مناطق ومدن شمال سيناء ومن بينها “بئر العبد” أيقونة في ثقافة الصمود والمقاومة عبر التاريخ الإنساني.
وإذ يقف المصريون على قلب رجل واحد عازمين على اجتثاث الإرهاب فإن الجريمة النكراء التي ارتكبتها عناصر الإرهاب الظلامي التكفيري أمس الجمعة ضد المصلين في مسجد الروضة ببئر العبد لن تزيد المصريين إلا تصميما على إلحاق الهزيمة النهائية بالإرهاب في الحرب التي تخوضها مصر دفاعا عن العالم قاطبة.
وفيما يقف أبناء شمال سيناء على الخط الأول لهذه الحرب النبيلة التي تخوضها مصر ضد الإرهاب الظلامي التكفيري فإن هذه المنطقة المصرية كانت دوما منارة لمفاهيم البطولة وحاضرة أبدا في جغرافيا الشهداء، ولم ولن تتعب من القتال ومنازلة العدو.
ومدينة العريش التي تقع شمال شرق سيناء على ساحل البحر المتوسط هي عاصمة محافظة شمال سيناء فيما سجل أبناء هذه الأرض المصرية الطاهرة من قبل صفحات مضيئة في تاريخ المقاومة للمحتل الأجنبي وها هم اليوم يواجهون عدوا إرهابيا ظلاميا يتسم بالخسة ولا يتورع عن استهداف المصلين في مساجدهم متوهما في ضلالاته أن هذه الجرائم النكراء يمكن أن تنال من روح المقاومة وعزم الأحرار.
ولئن اتجهت أنظار العالم لتلك المنطقة بعد الجريمة النكراء التي ارتكبها الإرهاب في حق أصحاب الأيدي المتوضئة والقلوب والوجوه الوضيئة في مسجد الروضة الذين انضموا لقوافل الشهداء فإن مدينة العريش تعبر عن الخصائص الثقافية والحضارية لمنطقة شمال سيناء ككل بما فيها “بئر العبد”.
وضمن كتابه “تاريخ سيناء” يتحدث المؤلف نعوم شقير عن تاريخ العريش والقبائل التي تقيم في محيط المدينة مثل السواركة والترابين والملالحة ومزينة والتياها فضلا عن العائلات الشهيرة في العريش وكثير منها يعود بأصوله لوادي النيل فيما عرف الجميع بالفطرة الطيبة والتسامح والانتماء الوطني في اروع معانيه .
وفيما تعد مدينة بئر العبد إحدى بلدات محافظة شمال سيناء فإن العاصمة العريش التي تبعد نحو 300 كيلو متر عن القاهرة تقع في منتصف قاعدة مثلث شبه جزيرة سيناء هي أكبر مدن محافظة شمال سيناء وتتميز بمياهها الزرقاء الصافية وأشجار النخيل المثمرة على طول الشاطىء بالرمال الناعمة البيضاء وتضم عدة تقسيمات إدارية ومدن وقرى أما رمزها الدال والمعبر عن طبيعتها وتاريخها فهو “النخلة تحوطها دائرة تشير للشمس وفي الأسفل مياه البحر مع سمكة تمسك بغصن الزيتون”.
وإلى جانب “متحف التراث البيئي”، و”متحف العريش القومي” تنهض جامعة العريش التي تضم عدة كليات من بينها كلية للآداب وأخرى للتربية فضلا عن العلوم والتجارة والسياحة والثروة السمكية بدور مهم في الحياة الثقافية بالمدينة ومحافظة شمال سيناء ذات المنتجعات والقرى السياحية والشواطىء الخلابة.
ولا ريب أن العريش عاصمة شمال سيناء بثقافتها الوطنية المصرية والعربية تفاعلت أيضا مع مؤثرات الثقافة المتوسطية بحكم موقعها الجغرافي وإطلالتها على البحر المتوسط لتكون بذلك مدينة جامعة ما بين أصالة التاريخ الثقافي المصري ومعطيات الثقافة البحر متوسطية فيما تتضمن الصفات التي منحتها ثقافة مصر القديمة لسكان هذه المنطقة الوصف الدال “أسياد الرمال”.
ومن المنظور التاريخي الاقتصادي، فإن سكان شمال سيناء عملوا بالرعي والتعدين واستغلال الثروة السمكية والزراعة حول الآبار والينابيع حيث ازدهر النخيل والتين والزيتون وحدائق الكروم بينما يرتاد أبناء هذه المنطقة المصرية الكريمة والسخية بمناجم النحاس والفيروز أسواق المدائن في وادي النيل للبيع والشراء والتواصل مع أشقائهم.
وإذا كان التاريخ يتحدث عن طريق حربي قديم عرف “بطريق حورس” الذي كان يمتد عبر سيناء أو “أرض الفيروز وجبال القمر” ويبدأ من موقع عند القنطرة حاليا وصولا للعريش فإن بلدة بئر العبد تقع على “طريق حورس” وعلى ضفاف بحيرة البردويل كما تتبعها “محمية الزرانيق” وهي جزء عزيز من “جغرافيا الشهداء” ومنتجة للمعاني التي تشهد على استعداد المصري دوما للتضحية بروحه دفاعا عن الأرض .
وتقول بعض روايات التاريخ إن السبب في إطلاق مسمى “بئر العبد” على المنطقة التي تحولت لمدينة من مدن محافظة شمال سيناء يرجع الى اسم بئر مشهور تحط عنده الرحالة للتزود بالماء على “طريق حورس الحربي” و”الدرب السلطاني”.
والعريش كانت ضمن سيناء نقطة ارتكاز للفتح الاسلامي لشمال افريقيا فيما تعرضت المدينة الباسلة لهجوم الجيوش الصليبية عام 1181 وقاومت الغزاة الذين قطعوا نخيل سيناء كما هددوا القوافل التجارية فضلا عن طريق الحج حتى دحرهم المصريون كما دحروا التتار وكل معتد على مر التاريخ وكانت “قلعة العريش” حاضرة في كثير من صفحات سجل المقاومة المصرية الماجدة لكل الغزاة وأعداء الحياة .
وتقع قلعة العريش التي أقيمت عام 1560 على أعلى نقطة في المدينة وتبعد نحو ثلاثة كيلو مترات عن ساحل البحر المتوسط وكانت مميزة “بالجامع العباسي” وتحيطها أحياء “الفواخرية والشوربجي والصفا” فيما ظلت لعدة قرون مركزا أساسيا للإدارة في سيناء.
وبقدر ما كانت شمال سيناء حاضرة في “خرائط القوى الاستعمارية وأجندات جحافل الشر” عبر التاريخ فان العريش كعاصمة لهذه المنطقة تعد أيقونة من أيقونات المدن المقاومة على مستوى العالم وتعرضت للتدمير بمدافع الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر غير أن صمود أهلها واستبسالهم في الدفاع عن ارضهم المصرية كان مثار إعجاب وتقدير الغزاة.
وجاءت “معاهدة العريش” التي وقعت في الرابع والعشرين من يناير عام 1800 لتكتب كلمة فاصلة حسمت نهاية الحملة الفرنسية على مصر في عام 1801 وأنهت المشروع الاستعماري للشرق الذي حلم به نابليون بونابرت.
ويبدو أن محمد علي كان مدركا برؤيته الاستراتيجية لأهمية العريش لحماية حدود مصر الشرقية في سياق مشروعه التحديثي لمصر التي تولى حكمها عام 1805 فقرر في عام 1810 إنشاء “محافظة العريش” ضمن التشكيلات الإدارية للدولة المصرية كما استحدث نقطة جمركية فضلا عن مركز للحجر الصحي بالمدينة.
ولئن انطلق الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي عام 1831 الى الشام عبر “طريق العريش” لإنهاء الاحتلال التركي العثماني فان العريش بشخصيتها المنفتحة ثقافيا وحضاريا احتضنت بعض الأشقاء القادمين من الشام ليستقروا بها وكذلك بعض أبناء البوسنة والهرسك أو “البوشناق”ويتحولوا جميعا الى جزء من نسيجها السكاني المتنوع والمتناغم بثراء حضاري كما تتنوع بيئتها الجغرافية لتضم معالم سياحية مثل محمية الزرانيق الواقعة في الجزء الشرقي من بحيرة البردويل إضافة للأحراش الساحلية.
ولأن الثقافة الظلامية التكفيرية للإرهابيين هي ثقافة تفرقة وانقسام بقدر ماتروج لمفاهيم تصنف المواطنين وتفاضل بينهم على اسس تمييزية وتنتهك قيمة العدل التي يعليها الدين الحنيف.. فمن الطبيعي أن ينظر الإرهاب العميل للثقافة الوطنية المصرية التي تتجلى في العريش وكل بقاع مصر بثرائها وتنوعها بعين العداء لأنها “حامية التعدد والاختلاف بقدر ماهي حاضنة الدولة الوطنية الحرة.
وبقت العريش حاضرة في كل الأحداث المفصلية في المسيرة المصرية وقاوم أهلها الاحتلال الانجليزي كما تصدوا ببسالة للاحتلال الإسرائيلي حتى عادت لترابها الوطني المصري في السادس والعشرين من مايو عام 1979 وانسحبت القوات الاسرائيلية من كل الأراضي المحتلة في سيناء في يوم الخامس والعشرين من ابريل عام 1982.
واليوم يكتب جند مصر- وبعضهم من ابناء المقاتلين في حرب السادس من اكتوبر 1973- صفحة مجد جديدة في “جغرافيا الشهداء” وهم يدحرون الإرهاب الظلامي التكفيري العميل ويردون غائلته وشروره عن التراب الوطني المصري.
ولئن كانت مفاهيم البطولة موضع اهتمام ثقافي سواء في الشرق أو الغرب فإن هذه المفاهيم تكتسب المزيد من الأبعاد النبيلة في ضوء بطولات جند مصر في منازلة كل أعداء هذا الوطن ودحر عصابات الإرهاب الدموي التي لا تستبيح حق الحياة فحسب وإنما تستبيح أيضا حرمة دور العبادة سواء كانت مساجد أو كنائس ناهيك عن انتهاك تلك العناصر التكفيرية الظلامية العميلة والساعية لشرعنة قانون الغاب لقيم الحرية والعقل والكرامة والعدل .
واذ تتبنى عصابات الإرهاب الساقطة في غياهب العمالة فكرا متهافتا وتأويلات منحرفة عن صحيح الدين لإسقاط فكرة الوطن وأفكار الوطنية فإنها أسفرت بجريمة الأمس عن مزيد من القبح عندما استهدفت بشرورها المصلين الآمنين في بيت من بيوت الله لتبرهن تلك العناصر على أنها معادية بالضرورة للدين الذي كانت تتمسح به.
وفيما تتوالى الطروحات حول “جريمة الإرهاب في مسجد الروضة” فان الدعوات تتوالى أيضا لإعلاء جدار الفعل المقاوم والمتعدد المستويات عبر ثقافة تعزز وعي المواطن بمصادر الخطر وتحفزه على المشاركة الفاعلة في تلك الحرب التي لا تقل خطرا عن حروب سابقة خاضتها مصر.
وباتت جرائم الإرهاب التي طالت المصلين الآمنين مثالا للوحشية والاستهانة بقيم الدين بينما بلغت ممارسات الجماعات التكفيرية الظلامية في المنطقة العربية ككل ذروة من التوحش يرى بعض المثقفين أنها أعلى مما عرفه البشر في أغلب مراحل التاريخ الإنساني.
وإذا كانت الأزمات والشدائد تكشف عن قوة أو ضعف المجتمعات من خلال طريقة تعاطيها مع هذه الأزمات وتلك الشدائد فان المجتمع المصري الذي شكل أول دولة في التاريخ ليس بحاجة للإسهاب في بيان مدى رسوخه وأصالته وقدرته على مواجهة الأخطار الداهمة.
والبشر الأحرار الذين يستحقون هذا الوصف ويؤمنون بعدالة قضاياهم كما تؤكد مثقفة غربية مثل جوانا بورك في كتابها “قصة الألم” قد لا يشعرون بأي ألم في قلب المعركة مهما كانت قسوة جراحهم لأن مشاعرهم وأحاسيسهم كلها مشدودة لعدالة ونبل القضية التي يحاربون في سبيلها.
ولا ريب أن جريمة استهداف المصلين أمس “الجمعة” ستحفز المصريين أكثر وأكثر لمواصلة الحرب على الإرهاب حتى اجتثاث هذا البلاء من أرض مصر الطيبة مهما كان الثمن والتضحيات واتساع ساحة المواجهة .
وسيناء التي عرفت بالانتصارات الفاصلة ضد أعداء الخارج كما حدث في حرب السادس من أكتوبر 1973 مكتوب لها فيما يبدو أن تكون صاحبة الجولة الفاصلة في الحرب ضد الإرهاب وقطع دابر هذا العدو الآثم الذي لا يعرف لبيوت الله حرمة.
وفيما يرى الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي أن هناك حالة من عدم الفهم لدى البعض لطبيعة المعركة مع الإرهاب وإنه في الحقيقة “وباء له ثقافته” فإن تحديات اللحظة الراهنة ووحشية ودموية التنظيمات الإرهابية وتهديداتها المستمرة لحقوق وحريات المواطنين وسلامة المجتمع واستقراره تتطلب بالضرورة ثقافة مضادة لوباء الإرهاب لعلها تتجلى في أيقونة للصمود والمقاومة مثل مدينة العريش.
واذا كانت العديد من الكتب تصدر تباعا حول تلك المدن الباسلة او مدن الكبرياء والوجوه النبيلة المستعصية على الاستسلام للمعتدى مثل ستالينجراد السوفييتية ولندن فى الحرب العالمية الثانية فان ثمة حاجة ملحة لسد النقص الواضح فى المكتبة المصرية والعربية التي تعانى من قلة الكتب التى تتحدث بصورة متعمقة ومحكمة عن مدن وبلدات مقاومة في الحرب ضد الإرهاب مثل العريش وبئر العبد والشيخ زويد.
وهكذا لابد من تقديم أبطال سيناء وقصص شهداءها وهؤلاء الأبطال الذين اختاروا بكل العزم والتصميم الانضمام لقوافل الشهداء ومن هنا فان ثمة حاجة لإنتاج أعمال درامية عن هؤلاء الأبطال و”هناك جوانب إنسانية وفكرية وسياسية واجتماعية في ملف الحرب على الإرهاب الإرهاب تستحق ان تكون موضوعا لدراما حرب سيناء” لخلق تيارات من الوعي تبني الوجدان الوطني كما ينبغي أن يكون البناء.
وهنا في سيناء الباسلة ومقبرة كل الغزاة والمعتدين ثمة حاجة لكثير من السرد المصري والجهد الثقافي الوطني والكتب ذات المستوى الرفيع الجديرة بتاريخ وواقع تلك المنطقة الغالية على كل مصري.
وثقافة الشهادة كانت زادا للرجال الذين خاضوا حرب العاشر من رمضان ليكتبوا بدمائهم وأرواحهم النصر لأمتهم تماما هي اليوم زاد الرجال الذين يخوضون واحدة من أنبل الحروب وأكثرها عدالة في مواجهة خسة ونذالة الإرهاب.
وإذا كانت مدينة وارسو البولندية هى أكثر المدن الأوروبية التى تعرضت للدمار أثناء الحرب العالمية الثانية فان العريش وكل مدينة وبلدة في سيناء ستبقى علامة أصيلة وشاهدة على معنى جغرافيا الشهداء وثقافة الصمود والمقاومة.
ولأنها حرب بكل معنى الكلمة فالحرب على الإرهاب التي دخلت مرحلة حاسمة بواقعة “مسجد الروضة” ليست أبدا بالسهلة ولا تقل خطورة وحاجة للحشد والتعبئة وتضافر كل الجهود في المجتمع عن الحروب التي تخوضها الجيوش والتي عرفت العريش وبئر العبد وكل بقاع سيناء من قبل معناها ومتطلباتها.
و”حكايات العريش وبئر العبد والشيخ زويد واقع وتاريخ يتجاوز الأسطورة !..براح حرية وعشق مصري..إنها “طقوس الطيبين ومواقيت الفداء ومعنى الصمود والمقاومة في أرض لن تغادرها طيور النور ولن تستسلم أبدا لغربان الظلام.
صامدون ما زلنا وصامدون سنبقى.. صامدون ندافع عن موطن أحلامنا ..صامدون كشموخ جبالنا ونخيلنا وعنفوان تاريخنا..صامدون بقوافل شهدائنا وابتسامات أطفالنا..صامدون في العريش وبئر العبد والشيخ زويد وكل شبر في التراب الوطني المصري..صامدون وسننتصر وندحر ميلشيات الظلام الإرهابي التكفيري ومشروعها البائس..صامدون وسط بحار الأهوال والتحديات الجسام والعواصف العاتية ومؤامرات تقسيم الدول وتفتيت الأوطان..صامدون وشعبنا فخر لأي مثقف حقيقي في العالم..شعب يجتاز التحديات بثقافة الصمود والمقاومة ليمنح الغد أملا طليقا !..
المصدر: أ ش أ