تتسارع الأحداث السياسية فى العراق، وتتسارع معها التوقعات والتحليلات.
فبعدما امتنعت المرجعية عن إبداء رأيها السياسي في خطبة الجمعة، بعدما وصلت الى قناعة بأن الكلام في المطالبة بإصلاح النظام السياسي والإدارى والقضاء على رموز الفساد ،وتحسين الخدمات ،أصبح كلاما مكرورا لاطائل من إعادته في كل جمعة وآلت على نفسها ألا تعود للحديث حول الموضوع إلا إذا رأت شيئا حقيقيا ملموسا يستحق الرأي والكلام .
وكان هذا الصمت قد أثار كثيرا من التكهنات والدلالات ،والتي تتفق في مجملها على أن المرجعية غير راضية عن العبادي وحكومته ،وقد فقدت الأمل فيها.. وفي الجهة المقابلة ؛فقد حاول العبادي في خطاباته المتكررة ،طرح فكرة التغيير الجوهري للوزارة ،ومن ثم الدعوة الى تشكيل حكومة من التكنوقراط، بعيدا عن الأحزاب والكتل السياسية. ثم تراجع بعد ذلك ليكون تشكيل هذه الحكومة من خلال الترشيحات للكتل والأحزاب، بعدما وجد ردود أفعال علنية وخلف الكواليس من قبل الأحزاب المشاركة في السلطة بأنهم لن يقبلوا بحكومة يشكلها العبادي من دون مشاركة الكتل السياسية..
وكان بيان المجلس الأعلى المعروف بمواقفه الوسطية أوضح مصداق للغضب السياسي الصادر من هذه الأحزاب ضد تشكيل العبادي لحكومة بمفرده ،ومن دون مشاركتهم..
وعلى الرغم من كل هذه الأحداث السياسية بقيت المرجعية صامتة إزاء هذه التطورات ولم تدل بدلوها ،وكأن الرسالة تقول أن هذا التطور وهذه الدعوات في تغيير الوجوه لايهمها بقدر مايهمها تطبيق برنامج اصلاحي حقيقي وشامل على الواقع.
هنا ظهر الصدر بورقته الإصلاحية المباشرة المدججة بالأسماء والمقترحات ومهلة زمنية مقدارها 45 يوما.. وقد ألهبت هذه الورقة حماس الجماهير المساندة للصدر واعتبرته زعيما للإصلاح ،بعدما بقيت الأحزاب المشاركة في السلطة تدور في فلك ردود الأفعال حول خطابات العبادي المنادية والمتحدية لتحقيق حزمه الإصلاحية في إطار القانون والدستور وتفويضه صلاحية ذلك من خلال البرلمان.
لم يتوقف الصدر عند طرح هذه الورقة ؛ بل دعا الى مظاهرات مليونية تحمل العلم العراقي ، وجاء الى بغداد ليتابع تنفيذ هذه الورقة ،والتقى العبادي والصدر في الكاظمية في خطوة عدها المحللون والرأي العام ضمن تقريب وجهات النظر والخروج باتفاق ايجابي .وهو فعلا ماتم التصريح به بعد اللقاء .
غير أن خطاب الصدر في الجموع المؤيدة في ساحة التحرير كان خطابا تصعيديا فهمه العبادي وبعض الأطراف الأخرى على أنه تهديد ووعيد وسحب البساط منه ومن الأحزاب التي قدمت في أزمان مختلفة أوراقها وأفكارها في الإصلاح ..وعلى الرغم من أن الصدر في خطابه قد تخلى عن كل التيار السياسي والحكومي له بكلمته المشهورة (( شلع قلع )) في إشارة مهمة بأن الصدر الان لايمثل التيار الصدري السياسي والحكومي بقدر مايمثل التيار الاصلاحي بمختلف أطيافه ، إلا إن العبادي عبر عن امتعاضه من هذا الخطاب.
هذه الأحداث الجمة والمتسارعة لم تستطع أيضا أن تحرك شفاه المرجعية لكي يعرف الرأي العام موقفها من هذه التطورات فانقطعت الصلة بينها وبين الجماهير المقلدة لها سياسيا وبقي الموقف خاضعا للتحليل والمناقشة ولم ينفع ماقيل في أول الصمت ؛من أن ((إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب)) ..
لم يقبل الصدر إلا بمتابعة مشروعه الإصلاحي الثوري ، وفي خطوات تصاعدية؛ فقد دعا هذه المرة الى مظاهرات مماثلة ولكن على قاب قوسين من الخضراء وقرب أبوابها ،في إشارة واضحة الى أن عدم تنفيذ ورقته الإصلاحية تعني أن المظاهرات ستكون في الأيام المقبلة داخل المنطقة الحكومية وليس خارجها..ولم يترك الصدر جماهيره من دون غطاء أمني فقد أشرك سرايا السلام وبعضا من قادته الأمنيين والعسكريين لحماية المتظاهرين ..كما أضاف للجنة التحضيرية أشخاصا مقربين من التيار المدني والمظاهرات السابقة فأضفى عليها لونا مدنيا..وكان خطاب الصدر قبيل هذه المظاهرات ،وبعدها يثير الغضب في صفوف مؤيديه ،ولكنه في الوقت نفسه يريده غضبا سلميا ولايتعداه الى التخريب والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة ،والذي يؤدي الى (( الفرهود )). بيد أن بيانه الأخير بوصف التحالف بالتخالف الوطني له دلالاته الواضحة على الانقسام الحاد بين المكونات الشيعية .وهو انقسام له تاريخه ومنطلقاته التي تكاد تكون معروفة للجميع .
اليوم العراق في مفترق الطريق ؛ فمازالت المرجعية صامتة .. ومازال العبادي يطالب بالإصلاحات والتغيير الوزاري.. ومازالت الأحزاب لاتمتلك ورقة اصلاحية تتفق عليها جميعا ..ومازالت الجماهير غاضبة مع وضع اقتصادي مترد وتقليل للرواتب.. ومازالت الأوضاع الأمنية قلقة سواء على مستوى التنظيم والتنسيق بينها ، أو على مستوى التخطيط مع دخول التحالف الدولي برا وجوا ..ومازال الوضع العربي والإقليمي والدولي في صراع بارد وساخن.. ومازالت الخدمات والفساد المالي والإداري على حالها من السوء ..و.. و ..وأخيرا ومازال الصدر جادا في أن تكون حركته الجماهيرية هي من ترسم خارطة العراق في هذه المرحلة..
فبين هذا الصمت.. وهذه المظاهرات الغاضبة .. يكمن العراق ، هذا الوطن المثخن بالجراح منتظرا نهايته السعيدة أو التعيسة في الأيام القليلة المقبلة.