كشفت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين النقاب عن متغير جديد أو محدد جديد من محددات العلاقات الدولية، وهو الصراع حول الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد أن اتهمت الولايات المتحدة الشركات الصينية بانتهاك حقوق الملكية الفكرية وتطوير التكنولوجيا الأمريكية بشكل غير قانوني، وهو ما نفته الصين.
وفي هذا الإطار اتخذت الولايات المتحدة إجراءات ضد شركة هاواوي الصينية للهواتف الذكية واعتقال نائبة رئيس الشركة في كندا بتهمة سياسية ، بينما كان أحد الأهداف الأساسية لهذه الإجراءات – حسب المراقبين للعلاقات التجارية بين واشنطن وبكين – هو الصراع الأمريكي – الصيني على الذكاء الاصطناعي.
ومع تسارع العالم نحو سباق الجيل الخامس من الانترنت، بات الذكاء الاصطناعي أحد مفردات ومحددات العلاقات الدولية ؛ نظراً للتنافس المحموم بين هياكل ومؤسسات المجتمع الدولي ، لتحقيق السبق والريادة في النظام العالمي، وكما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “إن من سيقود الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم”.
يُعرف الذكاء الاصطناعي بأنه أحد أشكال تقنيات التكنولوجية الحديثة التي تقوم بالأدوار التي يقوم بها الإنسان في مختلف المجالات، أي أن الإنسان الآلي أو الصناعي قد يحل محل الإنسان البشري في بعض الوظائف والمهام، والذكاء الاصطناعي بهذا المفهوم هو نتاج الثورة العالمية الرابعة التي تقوم على ثورة الاتصال والمعرفة والاقتصاد الرقمي.
وبالفعل بدأت العديد من الدول مرحلة التحول نحو الجيل الخامس للإنترنت، منها ما بدأ بالفعل في تقديم الخدمات التجريبية، على أن يبدأ بتدشين الخدمات التجارية خلال هذا العام، مثل: كوريا الجنوبية، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وسويسرا، وإسبانيا، وفنلندا، وفرنسا، وأستراليا.
ودول أخرى سوف تطلقه بحلول عام 2020 مثل: ألمانيا، وكندا، واليابان- ليشهد العالم ثورة حقيقية في مختلف دول العالم نحو تبني تقنيات الجيل الخامس للإنترنت ويتوقع أن يبلغ حجم سوق تقنية الجيل الخامس 251 مليار دولار عالميًّا بحلول عام 2025.
ومن هنا صار الذكاء الاصطناعي محدداً جديداً في تشكيل العلاقات بين الدول، عبر تأمين نفسها من خلال الاختراقات السيبرانية : سواء جماعات الهاكرز أو الوحدات السيبرانية التابعة لدول في المحيط الدولي.
وبامتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي، تستطيع الدول التحكم في العالم من خلال مجموعة من الروبوتات الذكية وبعض البرامج الحاسوبية، ولذا تتسارع الدول الكبرى في اقتناء التقنيات الحديثة بما يؤهلها لكسب مكانة تقدمية في هذا المجال، وتتسارع الدول في تسجيل عدد أكبر من براءات الاختراع.
وبرز في الفترة الحالية عدد من المفاهيم التي تحدد المدخل الجديد مثل المواطنة الرقمية Digital Citizenship والعملات الافتراضية مثل البيتكوين Bitcoin، والأمن الإلكتروني cyber security.
بدأت ملامح هذا الحقل الجديد تتشكل بخطوات تنافسية بين الدول الكبرى، والميل أكثر للصراع عن التعاون، لإدراكها بأن الاستحواذ التقني بهذا المجال تعني سيادة العالم. ولأن مجال العلاقات الدولية يشوبه الكثير من التفاعلات الصراعية في أية مجال منذ بدء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، من حيث الاختراق الفضائي، وإنتاج الأسلحة النووية، ومحاولة كل دولة بالانفراد في أية مجال جديد يطرأ على الساحة الدولية.
“تداعيات سلبية عديدة”
لعل من أبرز التداعيات السلبية للتنافس العالمي في الذكاء الاصطناعي هي : –
.. أولاً: استغلالها من جانب الجماعات الإرهابية في تصميم برامج حاسوبية تخترق القواعد البيانية الخاصة بالشركات الحكومية أو الشركات الهامة والبنى التحتية، أو تصميم مقاتلات بدون طيار، وهو ما ثبت تنفيذه عبر جماعات إرهابية من خلال استخدام الدرونز. وخاصة “الدرونز البحرية” التي يتوقع تزايد الاعتماد عليها لتعزيز الجهود الرامية إلى فرض القانون في البحار، على الرغم من تكلفتها الباهظة، غير أن تلك التكلفة آخذة في الانخفاض مع مرور الوقت، نظرًا لاشتراك عدد من مكوناتها مع مكونات الهواتف الذكية.
.. ثانياً: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً مؤثراً في الصدمات العالمية المحتملة مستقبلاً بسبب قدرتها على تعطيل شبكات التوصيل، مثل شبكات نقل الطاقة الكهربائية، وأنابيب النفط والغاز، وكابلات الاتصالات تحت البحر، وشبكات التلغراف والسكك الحديدية.
كما أن العديد من الهجمات السيبرانية خلال السنوات الماضية أدي إلى زيادة التركيز على الأنشطة السيبرانية، وتأثيرها المحتمل على الاستقرار في الفضاء السيبراني. وفي الوقت ذاته، استمرت النقاشات في الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا حول إمكانية تطبيق القانون الدولي على الفضاء الإلكتروني. وكذلك معايير سلوك الدول المسئولة، وتدابير بناء الثقة. وقد اعتُمدت مجموعة من أدوات الدبلوماسية السيبرانية في الاتحاد الأوروبي، لكن لا تزال التحديات المرتبطة بإسناد مسئولية الأنشطة السيبرانية عائقًا أمام خيارات الردع الفعال.
.. ثالثاً : أن الصراع على الذكاء الاصطناعي شجع علي تطوير أجيال جديدة ومتقدمة من أنواع الأسلحة المختلفة تفوق سرعة الصوت والضوء وتعتمد على الليزر وعلى الإنسان الآلي بشكل أساسي في صناعتها وتشغيلها، الأمر الذي أدى إلى اشتعال سباق التسلح العالمي بين الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين حيث قامت تلك الدول في الأعوام الأخيرة بتطوير أسلحة جديدة تقليدية وغير تقليدية ونووية مدمرة وأنواع متقدمة من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وكذلك الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي.
.. رابعاً : أصبح للذكاء الاصطناعي دور محوري في الحرب بين القوى الكبرى، كما حدث في الاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن التدخل في الانتخابات ، حيث اتهمت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 لصالح أحد المرشحين ضد المرشح الآخر واختراق حواسيب الحزب الديمقراطي وتسريب بيانات أعضائه ومحادثات البريد الإلكتروني والاجتماعات، وهو ما أثر على فرص فوز المرشحة هيلاري كلينتون أمام ترامب، وقد نفت روسيا هذه المزاعم.
.. خامساً : يبرز دور الذكاء الاصطناعي في عملية بناء السياسات واتخاذ القرارات، حيث تقوم عملية صناعة السياسة الخارجية على بناء مدركات وتصورات ذهنية وتوقعات سياسية، بالنسبة للذات أو الخصم أو سياقات العمل السياسي الخارجي، وتقوم أيضا على بناء سياسات طويلة الأمد واتخاذ قرارات لحظية، هذه العملية كانت ولا تزال تنجز بشكل أساسي وفقا لمجموعة من المحددات، النخب السياسية والتفاعلات المؤسسية داخل النظام السياسي، وسيؤدي صعود الذكاء الاصطناعي إلى تعديل آليات وتوازنات تلك القوى الفاعلة، فسوف يزداد ثقل عنصر المعرفة، فتصبح المادة اكثر وفرة، وتتوافر إمكانيات استشعار مبكر للخطر، ومستويات للمعرفة أكثر تعددا وأعمق، وإمكانيات لبناء نماذج وبدائل مختلفة للقرارات والسياسات.
يبقى القول أن الذكاء الاصطناعي بات أحد محددات قوة الدولة الشاملة، فلم تعد قوة الدولة مرتكزة على قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، بل أصبحت قوتها التكنولوجيا وتأثيرها في منظومة التفاعلات العالمية، في إطار التنافس الدولي والصراع ما بين الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة والنظام متعدد القطبية الذي تقوده روسيا والصين.
المصدر: أ ش أ