كشفت الهجمات الإرهابية على مدينة برشلونة الأسبانية التى وقعت مؤخرا ، عن مدى قدرة التنظيمات الإرهابية في اختراق الإجراءات الأمنية المشددة وتنفيذ عمليات إرهابية غير متوقعة ، باستخدام تكتيكات إرهابية غير تقليدية مثل الدهس بالمركبات في المناطق المكتظة ومراكز الجذب السياحي.
حوادث دهس وطعن تكررت في عدة دول أوروبية ، ففي 14 يوليو 2016 شهدت مدينة نيس الفرنسية هجوماً مماثلاً ، وفي 19 ديسمبر الماضى شهدت العاصمة الألمانية برلين هجوماً قبيل احتفالات الكريسماس ، وقبل اربعة أشهر وبالتحديد فى 7 أبريل الماضى تعرضت السويد لحادث دهس مماثلة ، ولم تسلم لندن من تلك الهجمات ، إذ شهدت هجومين مماثلين يومى 3 يونيو ، 19 يونيو الماضى ، كما شهدت أمس عملية دهس جديدة ، ثم شهدت فرنسا مرة أخرى حادثتين مماثلتين في 19 يونيو ، 9 أغسطس 2017.
تؤكد هذه الأحداث الإرهابية أن ثمة ضرورة عملية نحو تبني حلف الناتو استراتيجية أوروبية لمواجهة هذه الظاهرة التي باتت تهدد كيان دول القارة العجوز ، باعتبار الإرهاب في أوروبا لم يعد مجرد موجة عابرة سوف تنقضي بتفكيك حواضن التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط ، وإنما تحول إلى ظاهرة محلية وثيقة الصلة بالتعقيدات المجتمعية بالقارة ، وفق ما أكدت بعض الدراسات المتخصصة.
ولا شك أن مكافحة آفة الإرهاب أمر يهم كل الأمم ، وقد ظلت المسألة على جدول الأعمال الدولي لعدة عقود ، حتى دخلت مرحلة تاريخية في عام 2006 عندما وافقت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لأول مرة على إستراتيجية عالمية لتنسيق جهودها لمكافحة الإرهاب.
وبات الاتحاد الأوروبي باعتباره أحد مكونات المجتمع الدولي مدفوعاً إلى التأكيد على أهمية الحاجة إلى مقاربة متكاملة ، تحقق التفاعل بين الأدوار الجوهرية التي تلعبها العناصر المختلفة اللازمة لمكافحة الظاهرة الإرهابية ومنها الجمع بين التحريات الاستقصائية الاستخباراتية والبعد السياسي – الدبلوماسي والحوار بين الثقافات والحوار بين الأديان ومكافحة التمويل وأمن النقل وإستراتيجية مكافحة التجنيد ونشر الفكر المتشدد.
ووفقاً لأحد المبادئ الأساسية للاتحاد الأوروبي ، وهو المبدأ الذي اعترفت به الأمم المتحدة أيضا في عدد من وثائقها ، مثل الإستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب التي أقرتها الجمعية العامة في سبتمبر 2006 ، يجب أن تطور أعمال مكافحة الإرهاب في ظل احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وسيادة القانون.
أبدى الناتو تصميماً قوياً على محاربة الإرهاب، فقد كان الهدف المعلن من إنشاء حلف الناتو هو المحافظة على أمن القارة الأوروبية ضد منظومة الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي وعلى اثر انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة أصبح الحلف يواجه منعطفاً تاريخياً في مسيرته تتطلب منه التكيف واستجد لديه عدة أمور يأتي في مقدمتها : ضرورة تغيير مفاهيمه الأمنية من مفاهيم عسكرية بحته إلى مفاهيم أمنية تعني بقضايا الأمن الإنساني المعاصرة مثل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ، محاربة الإرهاب ، مكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات ، إدارة الأزمات.
ومع ذلك ، فإن الحلف يفتقر إلى إستراتيجية تجمع بين قدرات محاربة الإرهاب التي يتمتع بها الناتو من أجل تحقيق هدف واضح ؛ فالناتو يمتلك الوسيلة والهدف ولكن تعوزه الرؤية والإستراتيجية للقضاء على الإرهاب ، وتتطلب مقاومة الإرهاب الدولي استجابة دولية شاملة ومتعددة الجوانب يعززها تنسيق للجهود والوسائل السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والقانونية والاجتماعية والعسكرية.
ولاشك أن بنية حلف الناتو تؤهله لأن يكون واحداً من أفضل المنظمات الدولية لمواجهة الخطر الناجم عن ظاهرة الإرهاب الدولي، وذلك وفقاً للاعتبارات التالية:
أولاً : تمثل المادة الخامسة من النظام المؤسسي للحلف ، حجر الأساس الذي ترتكز عليه جهود محاربة الإرهاب ، حيث تنص هذه المادة على أن أي هجوم مسلح على دولة أو أكثر من دول الحلف يعتبر هجوماً على كافة الدول الأعضاء ، وجسدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي تعرضت لها الولايات المتحدة تطبيقاً فعالاً لهذه المادة.
ثانياً : يمثل الحلف منتدى دائما لإجراء مشاورات سياسية لا تقتصر على الدول الأعضاء فحسب بل تشمل الدول الشريكة والمنظمات الدولية الأخرى ، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد جبهة موحدة لمكافحة الإرهاب الدولي وذلك من خلال تبادل المعلومات والبيانات وترسيخ أواصر التعاون.
ثالثاً : يتمتع الحلف بالقدرة على شن سلسلة متكاملة من العمليات العسكرية بمشاركة العديد من الدول والتي تشمل القدرة على التخطيط العملياتي وإمكانية استخدام سلسلة واسعة من الإمكانيات العسكرية في أوروبا وأمريكا الشمالية وذلك لما يحظى به من بنية عسكرية متكاملة ، ويحرص الحلف على الاستفادة من التجارب والخبرات التي اكتسبها خلال العمليات التي ترتبط بالحرب على الإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر مثل المساعي الفعالة في البحر المتوسط والعمليات الجارية في أفغانستان إلى جانب مهام التدريب في العراق.
رابعاً : يستطيع الحلف مواصلة تطوير قدراته العسكرية من أجل مواكبة الأخطار والتهديدات الجديدة ، ويعتبر إنشاء قوة الاستجابة التابعة للناتو وتحديث هيكل القيادة مثاليين على ذلك.
ويواصل الحلف تطوير إمكانياته وقدراته عبر تبني آليات التخطيط العسكرية وتطوير تقنياته الحديثة ، وعلى سبيل المثال ، تهدف مشروعات “العلم من أجل مشروع السلام” إلى ابتكار سبل جديدة للكشف عن الكميات الصغيرة للغاية من الجمرة الخبيثة والمواد المشعة التي يمكن استخدامها في صناعة “القنابل القذرة”.
يبقى على حلف الناتو والدول الشريكة أن تضع استراتيجيات جديدة تتماشى مع التطور النوعي للظاهرة الإرهابية والجماعات المنفذة لها ، التي باتت تستخدم تكتيكات غير تقليدية تقوم على فكرة إرهاب المركبات ، والتي تتميز بسهولة تنفيذها ، ولا تشترط متطلبات خاصة أو مهارات قتالية لدى المنفذ ، علاوة على صعوبة توقع قيام شخص بالانحراف عن مساره واستهداف المشاة أو قوات الأمن في المناطق المكتظة.
المصدر: أ ش أ