و من صحيفة الحياة اللندنية نقرا مقالا عن ازمة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي تحت عنوان ” عندما تغامر الشعبوية بمستقبل المملكة المتحدةو اوروبا .
حيث تقول الصحيفة ” عاد البريطانيون إلى جزيرتهم. ولكن ليس بلا أثمان كبيرة يدفعونها من اقتصادهم ومن وحدتهم. المملكة المتحدة مهددة بالتشرذم دولاً ثلاث: انكلترا وويلز، سكوتلندا التي بدأت حكومتها المحلية تبشر باستفتاء جديد للخروج من المملكة والبقاء في الاتحاد الأوروبي، وارلندا الشمالية التي لا يمكن أن تلتفت إلى دعوات الوحدة مع جارتها الجنوبية، لما في ذلك من خطر العودة إلى أجواء الحرب الأهلية. اقترع المتقاعدون والمرشحون للحاق بهم قريباً ومعظم أولئك المنتشرين في دول القارة(!) ضد رغبة غالبية الشباب وجزء كبير من متوسطي العمر. اقترعوا للخروج من الاتحاد الأوروبي. قرروا عنهم بلا تردد. أو بالأحرى قامروا بمستقبلهم بشعبوية قل نظيرها، لئلا نقول دمروا أحلامهم وطموحاتهم في قارة تشكل أحد أكبر التجمعات السكانية والاقتصادية والعسكرية في العالم. علماً أنهم في تركيبة سكانية يشكلون غلبة فيها، يعتاشون على ما تنتجه سواعد هؤلاء الشباب. وأعطوا دفعة لأحلام اليمين المتطرف في عدد كبير من الدول الأعضاء في الاتحاد. في فرنسا التي تتمتع فيها «الجبهة الوطنية» بثقل لا يستهان به تعززه أوضاع اقتصادية متردية. وفي إيطاليا وبولندا وهولندا والدانمارك والسويد والنمسا. وما لم يستعجل قادة الاتحاد عملية إصلاح واسعة أو تجديد المعاهدة بما يبدد الشكوك الشعبية التي رافقت مسيرة الوحدة، فلا شيء يحول، في هذا البلد أو ذاك، دون استنساخ التجربة أو الكارثة التي دفعت إلى خروج المملكة المتحدة بعد نيف وأربعة عقود.
يتحمل البريطانيون جزءاً كبيراً من المسؤولية عما ستؤول إليه أوضاعهم السياسية والاقتصادية، وما سيحل بموقع بلادهم كقوة عظمى وخامس أكبر اقتصاد في العالم. فمنذ التحاقهم بالسوق الأوروبية ثم مع دفعهم بمعاهدة مايسترخت قدماً، لم يلتقوا على سياسة موحدة حيال حقوقهم وواجباتهم من الاتحاد. بل لم تستطع الأحزاب الكبرى توحيد صفوفها حيال مستقبل البلاد مع القارة أو خارجها. هذا ما واجهه حزبا المحافظين والعمال. وهو ما دفع ديفيد كاميرون إلى الاستقالة. وما دفع عماليين إلى المطالبة باستقالة جيريمي كوربين. لم يحظ الانضمام إلى الاتحاد بالشعبية، كما هي الحال في دول أعضاء عدة. اقتصر الاعتراض في دول كثيرة على القوى الوطنية المتزمتة واليمين المتطرف. هذا اليمين الذي هلل وبدأ يعد العدة لاستنساخ التجربة البريطانية. مناصرو الخروج أخذوا على المتمسكين بالبقاء أنهم لم يقدموا سبباً مقنعاً للبقاء. اعتمدوا سياسة التخويف من تداعيات الطلاق (انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني، هبوط أسعار العقارات، ارتفاع نسبة الفائدة، فقدان الموقع المالي البارز لبورصة لندن… فضلاً عن تراجع وزن بريطانيا السياسي أيضاً). لكن هؤلاء المناصرين هم أيضاً مارسوا غوغائية ورفعوا شعارات كاذبة ودغدغوا المشاعر الوطنية. ورفعوا شعار السيادة والحرية وغيره من الشعارات التي لا تغني ولا تسمن. وقدموا الصراعات السياسية المحلية الضيقة وحساباتهم الشخصية على مستقبل البلاد ومصالحها البعيدة. ديفيد كامرون أزعج قادة الاتحاد بفكرة الاستفتاء. ووقع في شرك لم يتوقع أنه سيقع فيه. وتغادر بلاده في وقت كان الاتحاد يبحث عن الحلول العملية للمشاكل التي تفضلها وتطالب بها، بدلا من متابعة الحديث عن الفيديرالية التي يكرهها البريطانيون. صحيح أن النتيجة جاءت أيضاً اعتراضاً على طغيان مؤسسات الاتحاد، وعلى قواعد العولمة عموماً. لكن الصحيح أيضاً أن مقاومة العولمة أوالسعي إلى الخروج منها أشبه بمحاولة الخروج على قوانين العصر وثورته العلمية وسبل التواصل الرقمية، والعودة إلى الوراء. وهي عودة مستحيلة.
الاتحاد يتحمل مسؤولية أيضاً عما آل إليه الوضع وما سيجره من تداعيات. بدأ سوقاً مشتركة في 1973. قام على كذبة: إنه منطقة تجارة حرة لا تهدد السيادة الوطنية. لكن بروكسيل، مقر الاتحاد، سرعان ما بدأت تتحول مركز القرار. لقوانينها ومؤسساتها الكلمة العليا على باقي القوانين الوطنية لكل دولة عضو. ومحكمتها صارت تملي نحو ستين في المئة من قوانين الدول الأعضاء، وسبعين في المئة من القواعد. في حين تشكل نسبة التعامل الاقتصادي البريطاني مع دول المجموعة عشرة في المئة فقط. وعد الاتحاد شعوبه بالرفاه والازدهار. لكن اليورو تسبب بإفلاس اليونان، وعرّض اسبانيا وفرنسا لأزمة اقتصادية عميقة. وساهم في رفع نسبة البطالة في جنوب القارة. بينما احتلت المملكة المتحدة التي لم تعتمد اليورو المرتبة الثانية اقتصاديا في أوروبا. كما أن إلغاء الحدود وحرية التنقل سمحت بهجوم جيوش المهاجرين على بريطانيا، الأمر الذي خفض الأجور وعرض الخدمات العامة (الطبابة والإسكان والتعليم) لضغط هائل. وقد ينهار نظام الخدمات هذا مع توقع مزيد من المهاجرين من دول فقيرة تنتظر دورها لدخول الجنة الأوروبية، مثل ألبانيا ومقدونيا وصربيا ومونتينيغر وربما تركيا التي ستشكل الكتلة السكانية الأكبر بعد المانيا. علماً أن نحو أربعين في المئة من العاملين في القطاع الصحي هم من دول الاتحاد. فضلاً عن نحو مليوني أوروبي يعملون في المملكة ويساهمون في تغذية النظام الضريبي. أما محكمة العدل الأوروبية فباتت تتدخل في أصغر القضايا وأكبرها، من سعر البيرة إلى الحق في ترحيل المتهمين بالإرهاب. فالسجون في بريطانيا مثلاً تضم نحو عشرة آلاف أجنبي بينهم ألف بولندي يتسحيل ترحيلهم إلى بلدانهم لأنهم يملكون حرية التنقل في ربوع القارة!
جاء دخول المملكة المتحدة السوق الأوروبية، بعدما استبعدها المؤسسون الستة الأوائل، خصوصاً فرنسا الديغولية، عن أول نواة، «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» (1951). ثم عن أول وحدة جمركية بين هذه الدول (1957) والتي عرفت بالسوق المشتركة. وظل البريطانيون يتوجسون من تقدم الاتحاد. وظلوا في صميم المعترضين على كل إجراء جديد نحو وحدة فيديرالية على غرار الولايات المتحدة. لم يدخلوا «فضاء شينغن»، وتمسكوا بالجنيه رافضين اليورو عملة موحدة. وكثيرة هي العناصر التي رفضوا التخلي عنها، وحتى سيارة الأجرة السوداء الشهيرة. كانت هناك ديناميتان قاطرتان للاتحاد تحركهما مشاعر وطنية غلبت أحياناً على منطق المصالح وقوانين العصر: المملكة المتحدة التي أرادت أن تكون في طليعة المقررين لمسيرة الاتحاد وسياساته وقوانينه. لأنها ببساطة كانت ولا تزال تعيش نشوة الانتصار على النازية. أرادت التذكير دوماً بدورها في هزيمة المانيا الهتلرية وإنقاذ أوروبا، من أجل توكيد حقها في كلمة عليا. في المقابل كانت النخبة الحاكمة في المانيا، (ومعها فرنسا)، توجه سياساتها بالحاح نحو تجاوز كل ما دفعها إلى التسبب بحربين عالميتين في القرن الماضي سقط فيهما نحو ستين مليون قتيل وشرد مئات الألوف. لذلك حرص الألمان، غداة هزيمتهم في الحرب الثانية بعد الأولى وما خلفتاه في القارة من مآسي وتدمير، على الانخراط في وحدة يستحيل بعدها إيقاظ فكرة القومية أو الوطنية التي تريد الهيمنة والتسلط على جيرانها. ولا يزالون أكثر الشركاء إصراراً على الوحدة والتضحية في سبيلها، خوفاً من إيقاظ الماضي الأسود. جون كلود يونكر رئيس المفوضية اختصر وضع المملكة المتحدة ببساطة معبرة: «لن يكون طلاقاً ودياً، لكنه لم يكن أيضاً علاقة حب قوية»!
الأمر الخطير بعد خروج بريطانيا ليس التداعيات الاقتصادية والسياسية فحسب، بل استحالة العودة. لن تستطيع لندن التي قدمت أخيراً درساً حضارياً باختيارها مسلماً من أصل باكستاني لعمدتها، واقترعت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. ولن تفيدها آلاف التواقيع التي تطالب ببقاء المدينة في الفضاء الأوروبي. والأمر الخطير ليس الانقسامات التي تهدد المملكة ووحدتها، ولا صحوة الحنين إلى ماض لم يعد له وجود ولا يمكن أن يتكرر في عالم اليوم. بل إن توقيت الخروج يضاعف التحديات التي تواجه القارة بأكملها. فقد أثبتت أزمة اليونان المالية وبعدها أزمة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين أن دول المجموعة ليست قلباً واحداً. الدول الشرقية في القارة والحديثة الانضمام إلى الاتحاد لم تغادر بعد تحفظاتها التاريخية حيال انفتاح غرب القارة وفضاءاتها ونظمها المتقدمة. وقد لا يروق لها أن يتضاعف دور المانيا في قيادة الاتحاد سياسياً واقتصادياً. إضافة إلى أن أوروبا بمجملها تواجه تحدياً آخر هو صعود روسيا مجدداً. فقد نجح الرئيس فلاديمير بوتين في استنهاض الروح القومية. وسيكون مسروراً في سره كلما اهتزت وحدة القارة العجوز. وتواجه أوروبا أيضاً خطر الإرهاب المتنامي وتداعي النظام في شرق المتوسط وشمال أفريقيا. وكانت ولا تزال تأخذ على أنظمتها الأمنية عدم التنسيق كفاية لمواجهة هذه التحديات. وهي الآن أمام يقظة المشاعر القومية الضيقة والشعبوية التي تريد عودة مستحيلة إلى الوراء.
المصدر: صحيفة الحياة