على رغم خروج الاجتماع الوزاري “للمجموعة الدولية لدعم سوريا” بقرارات عن المرحلة الانتقالية لمدة سنتين، يتخلّلها وقف شامل لإطلاق النار وتشكيل حكومة مشتركة خلال ستة أشهر وانتخابات عامة بعد ثمانية عشر شهراً، لا يعني ذلك أن هذه التسوية قد نضجت مقوماتها.
تتداخل عوامل بنيوية وسياسية وإقليمية ودولية، لتشكّل عناصر متناقضة تضع شكوكاً عميقة على إمكان وضع حدّ لهذا النزاع الدامي المتواصل منذ خمس سنوات.
أول المعوقات يتّصل بالبنية السورية نفسها. سوريا اليوم هي غيرها التي كانت قبل انطلاق الانتفاضة. فالانقسام في المكونات المجتمعية السورية وصل إلى أعلى درجات الفرز الطائفي والمذهبي، ويحمل كلّ منها هواجس على مصيره الحالي والمستقبلي، وينبش من تراثه خصوصيات تميّزه عن الآخر، وصولاً إلى الاستعانة بالخارج لحماية هذه المجموعات، بما يذكر بمرحلة استعمارية عرفتها المنطقة العربية عندما كانت الدول الغربية تدّعي أن تدخّلها أتى لحماية هذه المجموعة أو الطائفة بناء لطلبها.
إلى جانب هذا الانقسام الطائفي الحاد، تعيش سوريا حالياً تقسيماً واقعياً. فالدولة المركزية لم تعد مسيطرة على مجمل الأراضي السورية، لها “كانتونها” المحدد، فيما سائر التنظيمات المسلّحة تقتطع الأراضي السورية الأخرى، بحيث يصعب تعداد “الكانتونات” المتناثرة. تتمتع التنظيمات المسلّحة المنتشرة بقدرات مادية وعسكرية واقتصادية، بحيث باتت “ميني سلطة” لها مصالحها التي تقاتل من أجلها، وليست مستعدة للتخلّي عن المساحات التي تسيطر عليها ببساطة.
يستظلّ هذا الانقسام والتقسيم بفوضى كيانية تضرب سورية وتضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبلها وكيانها، في ظلّ أطماع خارجية تسعى إلى اقتطاع أراضٍ ورعاية قوى أهلية، تصبّ كلها خارج إطار توحيد سوريا والحفاظ على كيانها.
المعوّق الثاني المتّصل بقوة بالمعوّق الأول، يتناول طبيعة التسوية أو التسويات المقترحة، ومدى واقعيتها أو صلاحيتها لحلّ الأزمة السورية.
مطروح حتى الآن ما جرى التوافق عليه في جنيف عام 2012، ومطروحة المبادرة الإيرانية، ثم المبادرة الروسية، إضافة الى ما يعلنه النظام من أن التسوية لن تكون قبل إنهاء الإرهاب. المشاريع المطروحة تحمل ألغاماً أكثر منها حلولاً.
الإصرار على بقاء النظام ورئيسه عقبة مركزية يصعب الوصول إلى تسوية من دون حلّها.
ثم أي تركيبة سياسية سترسو؟ هناك حديث عن تسوية على الطريقة اللبنانية، أي بإيجاد “طائف سوري”، ينتج نظاماً من المحاصصة الطائفية والمذهبية. يطرح سؤال عن القوى التي سترعى تنفيذ التسوية: ففي لبنان، تولى النظام السوري رعاية تسوية الطائف وتنفيذها، فمن سيرعى الطائف السوري؟ وأي قوة خارجية ستأخذ على عاتقها حل الميليشيات السورية وإخضاعها للسلطة المركزية؟
إلى جانب هذه المعضلة، تطرح مسألة القوى الداخلية التي ستشارك في التسوية. في سوريا، معارضات منتشرة ومتعدّدة على غرار التنظيمات المسلّحة، فمن هي القوى التي ستدخل في هذه التسوية؟ تتصارع المعارضات على أحقية التمثيل، وكل واحدة تريد إلغاء الأخرى، ولا تبدو صاحبة برنامج سياسي مقنع للسوريين. إضافة الى مشكلاتها البنيوية، يبدو النظام السوري عصياً على الاعتراف بمكوناتها، إلا بما سبق أن فبركه من بعض الشخصيات. لا يساعد تشرذم المعارضة والفوضى في تكويناتها على تشكيل قوة سياسية تفرض نفسها في أي حل يطبخ لسوريا.
يبقى المعوّق الثالث والمتّصل بالصراع الإقليمي والدولي على سوريا، وهو عامل يتحكّم اليوم بمسار الأزمة السورية، حرباً أو تسويات. من المثير للحزن والسخرية، أن مؤتمرات دولية وإقليمية تعقد ولا يتمثل فيها الشعب السوري، سواء عبر النظام أو المعارضة.
تدور الاتصالات بين القوى الدولية وتقدّم الاقتراحات والحلول من دون الأخذ بالاعتبار المصالح السورية.
تدور الآن حروب بديلة باردة وساخنة على الأرض السورية بين القوى الدولية، التي ترى في الأزمة السورية تصريفاً لبعض صراعاتها الكبرى.
لم تكن الدول الكبرى المتصارعة اليوم والمتدخّلة في سورية بحجة محاربة الإرهاب، تعطي أهمية لمصالح سورية والحفاظ على مقوماتها.
الأساس في هذه القوى استثمارها الإرهاب الذي خلقته ورعته بعض هذه الدول، من أجل حلّ خلافاتها التي تقع خارج سورية والمنطقة العربية.
لذا لا يضير هذه القوى أن تبقى الحرب السورية مفتوحة، وأن يدمر ما تبقى من سوريا، بشراً وحجراً، طالما أن جنود هذه الدول غير منخرطين في القتال.
من هنا، نسمع اليوم كلاماً عن تسويات لا مقومات حقيقية لتنفيذها، قبل أن تتوصّل هذه القوى الإقليمية والدولية الى نيل الحصص التي ترغب فيها.
هذا يعني أن أمام سوريا وشعبها رحلة مديدة من العذاب وشلالات الدم المهدورة، ومزيداً من التهجير والذهاب الى المجهول.