الحياة اللندنية : أزمة العراق ليست سياسية والمطلوب «طائف» ينقل الصراع إلى المؤسسات الدستورية
لا توجد مفردة تلهج بها ألسن الساسة العراقيين هذه الأيام مثل مفردة «الإصلاح»، حتى غدت لها جاذبية سحرت الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البنك الدولي معاً اللذين زارا العراق لدعم «الإصلاح» بمنحه ٣٥٠ مليون دولار، فقط لتحقيق إصلاح لم تقدر عليه ٨٠٠ بليون دولار أُهدرت خلال عقد من دون أن يظهر رصيف واحد بُنِيَ من هذه البلايين المهدورة في أي من مدن العراق. بل إن «الإصلاح» دفع رئيس البنك الدولي لكي يتدخل في شأن داخلي، حين طالب بمزيد من الدعم للحكومات المحلية التي أثبتت تجربتها في العراق أنها كارثة وأنها مصدر للّصوصية وهدر الأموال.
مفردة «الإصلاح» أقنعت ملايين العراقيين بأن الإصلاح قادم. وأن مستقبل العراق أصبح ملوناً بألوان قوس قزح، وأن الأزمات ستنتهي، وأن الحل في حكومةٍ تدخّل الأميركيون في اختيار أفرادها ليكتمل الفصل الأخير من تدمير العراق سياسياً واقتصادياً. أطراف دولية وإقليمية كثيرة تجد نفسها متورّطة في الوضع العراقي فيما يتصاعد الخلاف على دور إيران، بعد أن تسرّبت معلومات بأن واشنطن تخلت عن سورية لإيران وروسيا لكنها لن تتخلّى عن العراق، ولذلك فهي تعود عسكرياً من بوابة الأنبار والموصل، وتدعم تغييراً لحكومة أكثر ولاءً لها. ولهذا السبب، نرى متغيرات في المواقف والأحداث كان يصعب توقُّعها.
منذ أشهر والتظاهرات من أجل الإصلاح وضد الفساد تأخذ مكانها كل يوم جمعة. ثم انضم اليها مقتدى الصدر واستقبل عدداً من نشطاء التظاهرات، ومضى خطوة أبعد، حين شكّل لجنة لاختيار حكومة من خلال ترشيح وزراء خارج الكتل البرلمانية ممن لا تأثير لإيران عليهم وإنما للولايات المتحدة. وبالتوازي هناك مقرّب جداً من السيستاني أكد لي شخصياً أن آية الله السيستاني رفض طلبات لقائد فيلق القدس قاسم سليماني للقائه، وأن توتراً ملموساً بين مرجعية النجف وإيران يقود التطورات في العراق. وعلى هذا الطريق، سار الصدر الذي تلقى اتصالاً من سليماني للقائه في بغداد بعد مشاركة الصدر في التظاهرات، لكن الصدر رد عليه بأنه في النجف ومن يريد لقاءه يأتي الى النجف، وهذا يؤكد دعم السيستاني لخطوات الصدر الذي وصفه بيان صادر عن مكتبه بأنه قائد عربي، في إشارة واضحة إلى إيران.
يمكن تفسير خطوة الصدر وتحالفاته الجديدة مع يساريين مقربين من الولايات المتحدة بأن الصراع ضد النفوذ الايراني قد امتد الى داخل التحالف الشيعي نفسه. وبإعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي تشكيلة وزارية أنهى الصدر اعتصامه وطلب من مؤيديه الانصراف من حدود المنطقة الخضراء، بعد أن أكد أنه قادر على السيطرة على الشارع وأنه رقم لا يمكن تجاوزه، كما استعاد بعض مؤيديه السابقين الذين انشقوا عنه والتحقوا مع عصائب الحق وتنظيمات شيعية أخرى. الصدر إذاً هو الرابح الوحيد من هذه التظاهرات والاعتصامات.
لكن مطلب تغيير الحكومة لا يحل الأزمة، ربما زادها اشتعالاً. فالضحية حتى الآن هي وزراء المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة وإلى حد ما الأكراد. فقد استبعد وزراؤهم في النفط والنقل والخارجية والتخطيط والإسكان والتعليم والصحة وغيرها، ومن المرجّح أن لا يتم التصويت على التشكيلة الجديدة، خصوصاً أن هناك غالبية متعاونة مع ايران لا تزال ترفض الاعتراف بهذه التغييرات.
تبدو المعركة شبه حاسمة لإضعاف النفوذ الإيراني الذي يتمثل بالضغط لمنع تقليص نفوذ حزب الدعوة وهيمنته على القرار في العراق. فمن جهة، يمثل العبادي حزب الدعوة ومطلوب منه إبقاء القرار بيد الحزب، ومن جهة أخرى يخضع العبادي لتيارات قوية أصبح واضحاً التقاؤها في الهدف الأخير، فقد التقت أهداف المرجعية والصدر مع أهداف الولايات المتحدة ودول خليجية في إحداث تغيير وزاري يمتص اندفاعة الأزمة العراقية الى الهاوية، او يدفع بها الى الهاوية في تناقض مصالح عميق، فحكومة التكنوقراط المطلوبة تهدف من جهة إلى ان تكون نسخة أميركية جديدة لتغيير رؤوس في الطبقة الحاكمة منذ ٢٠٠٣، بعد ان انكشفت هذه تماماً من خلال الفساد ومن خلال عدم قدرتها على أداء سياسي مقبول، ومن جهة أخرى تهدف إلى إبراز وجوه ذات علاقات عربية بعيدة من ايران.
كان مطلوباً من العبادي، كما كان مطلوباً من المالكي، تحقيق مصالحة وطنية وكان الدعم الأميركي والبريطاني للعبادي يشترط تحقيق هذا الهدف الذي ذكره لي مسؤول ديبلوماسي بريطاني كبير في بغداد بعد اشهر من تسلُّم العبادي. لكن، من الذي يعرقل المصالحة الوطنية التي اقتصرت في عهدي المالكي والعبادي على إطلاق سراح محكومين بتهمة الارهاب أو مجتثين وفق أمر اجتثاث البعث وقانون المساءلة والعدالة؟ ولسوء الحظ انهم جميعاً من المذهب السنّي، على رغم انهم لا يمثّلون فعلياً السنّة بقدر ما يمثلون أهدافاً أخرى.
المصدر : الحياة اللندنية