وسط اهتمام كبير على الصعيدين الثقافي والإعلامي.. تحتفل مصر اليوم الاثنين بالذكرى المئوية الأولى لمولد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو 1952 بوجهها الثقافي المضييء الذي أثرى التاريخ الثقافي العربي.
ووسط اهتمام كبير في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة بذكرى مرور 100 عام على ميلاد جمال عبد الناصر وطروحات متعددة ورؤى جديدة ولقطات وصور نادرة في مراحل حياته ثمة اتفاق عام بين المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم السياسية على أن الزعيم الراحل الذي ولد يوم 15 يناير 1918 وقضى يوم 28 سبتمبر 1970 كان صاحب اهتمامات ثقافية عميقة بقدر ما ترك منجزات ثقافية شاهقة لمصر والأمة العربية.
وتحتفل وزارة الثقافة بكل قطاعاتها بمئوية جمال عبد الناصر طوال شهر يناير الجاري وعبر أنشطة وفعاليات متعددة من بينها ملتقيات ينظمها المجلس الأعلى للثقافة تبدأ اليوم بمؤتمر في “المسرح الكبير بدار الأوبرا” وندوة فكرية يوم الثلاثاء المقبل تقام في القاعة الرئيسية بمركز الإبداع بعنوان:”مشروع جمال عبد الناصر-رؤية مستقبلية”.
ولئن تضمنت هذه الاحتفالات عرض فيلم تسجيلي بعد غد في دار االأوبرا للمخرج أحمد فؤاد درويش بعنوان دال هو “ماذا لو عاش عبد الناصر ؟” فإن الجدل السياسي والفكري مستمر حول تجربته التاريخية وإنجازاته وإخفاقاته وإمكانية استلهام بعض الدروس من هذه التجربة المحفورة بوشم الإخلاص في الذاكرة الثقافية المصرية والعربية.
ويقول مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور مصطفى الفقي “مهما احتدم الجدل حول شخصية عبد الناصر فإنه يبقى أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم العربي خلال القرن العشرين وهو القائد الذي وصل تأثيره إلى قاع القرية وحارات المدينة”.
وكشف مصطفى الفقي عن أن مكتبة الإسكندرية اختارت يوم 26 يوليو هذا العام كقمة الاحتفال “بمئوية قادة ثورة 23 يوليو حيث ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918 وارتبط ميلاد خليفته أنور السادات بيوم 25 ديسمبر من نفس العام ولذلك فإن عام 2018 هو عام قادة ثورة يوليو بامتياز أما يوم 26 يوليو فهو العيد القومي للإسكندرية التي تشرف المكتبة بحمل اسمها”.
وثورة 23 يوليو 1952 التي قادها جمال عبد الناصر مع رفاقه الأحرار ومن بينهم أنور السادات حلقة في سلسلة متصلة من كفاح المصريين من أجل الحياة الحرة الكريمة بقدر ما عبرت عن أصالة إرادة المواجهة في لحظة التحدي حتى لحسابات ومصالح قوى كبرى في العالم وهو ما تجلى أيضا في ثورة 30 يونيو 2013 والتي جاءت ردا على تحديات وجودية كانت تهدد بفداحة مصر والمصريين وهويتهم ومنظومة قيمهم ودولتهم الوطنية التي هي دولة كل المواطنين تحت سماء الوطن الواحد.
وإذ تستمر عملية التحليل والتقييم الموضوعي لثورة 23 يوليو شأن أي حدث تاريخي كبير تؤكد هذه الثورة المصرية الخالدة على مكانتها العالية في التاريخ الثقافي العربي وأصالة مواريثها الثقافية سواء على مستوى القضايا الفكرية التي مازالت تلهم كبار المثقفين العرب وتحفزهم على مزيد من البحث والإبداع أو على مستوى الإنجازات الثقافية المضيئة حتى الآن على امتداد الوطن.
ويتفق العديد من المثقفين على أهمية قراءة “التجربة الناصرية في سياقاتها التاريخية والتحديات الهائلة التي واجهت التجربة وصولا لتقييم موضوعي يخدم المستقبل” فيما تتيح احتفالات وزارة الثقافة للأجيال الشابة التي لم تعاصر التجربة الناصرية إمكانية التعرف على الكثير من تفاصيل وملامح هذه التجربة الثرية في التاريخ المصري والعربي والإنساني.
فقد قرر وزير الثقافة حلمي النمنم فتح “متحف جمال عبد الناصر” مجانا للجمهور ولمدة ثلاثة أيام اعتبارا من 15 يناير وحتى 17 من الشهر ذاته فيما تقيم دار الكتب والوثائق القومية احتفالية الاثنين بمناسبة المئوية الأولى لمولد جمال عبد الناصر، كما تصدر عدة كتب عن الزعيم الراحل وبعضها يضم صورا ووثائق نادرة إلى جانب مشاركة المركز القومي للترجمة في هذه الاحتفالات الثقافية بكتاب “ناصر” من تأليف الروسي اناتولي اجاريشييف وترجمة سامي عمارة.
أما الهيئة العامة للكتاب فانتهزت فرصة الدورة الجديدة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب التي تبدأ 27 يناير الجاري وتستمر حتى 10 فبراير المقبل للاحتفال بمئوية جمال عبد الناصر سواء على مستوى الكتب والإصدارات أو على مستوى الندوات واللقاءات الثقافية بالمعرض.
وفيما تشارك الهيئة العامة لقصور الثقافة بفعاليات وندوات متعددة في احتفالات مئوية جمال عبد الناصر عبر أفرعها بالأقاليم فإن هذه الهيئة كانت في الواقع ثمرة من ثمار الاهتمام الكبير بالثقافة الجماهيرية في ستينيات القرن العشرين وفي ظل ما عرف “بالعصر الذهبي لوزارة الثقافة المصرية” بقيادة أحد رفاق جمال عبد الناصر وهو الدكتور ثروت عكاشة.
ولئن كانت ثورة 23 يوليو قد شكلت ثقافة وطنية ضد الهيمنة الأجنبية مرتكزة على حضارة شعب راسخ في أرضه عبر آلاف الأعوام فإنها بما شكلته من مشروع وطني وما تبنته من رؤى قومية للأمة العربية كان تأثيرها الثقافي عميقا بكل المقاييس فيما منحت القاهرة المزيد من التألق كعاصمة ثقافية للمنطقة كلها وأحد أهم المراكز الثقافية على المستوى الكوني.
وفيما عرف بعشقه للقراءة والاطلاع في كل جديد في المعرفة والثقافات الإنسانية تؤكد كتابات وشهادات متعددة ولع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بالمقطوعة الموسيقية “شهرزاد” التي استلهمها الموسيقار الروسي نيكولاي كورساكوف من العمل الخالد “أالف ليلة وليلة”.
وإذا كانت الذكرى المئوية الأولى لمولد قائد ثورة 23 يوليو مناسبة لاستدعاء ذكرى “الضمير الثقافي لهذه الثورة كما تجسد في الراحل العظيم الدكتور ثروت عكاشة بإنجازاته الثقافية الخالدة كأبرز وزير ثقافة في الحقبة الناصرية” فإن من دواعي الإنصاف وطبائع الأمور القول إن هذا الوزير المفكر لم يكن لينجز كل ما أنجزه لولا دعم ومساندة جمال عبد الناصر قائد الثورة ورئيس الدولة.
وهكذا وفي ظل هذا الدعم والمؤازرة تسنى لثروت عكاشة “فارس السيف والقلم والوجه الثقافي المضييء لثورة 23 يوليو” أن ينقذ آثار النوبة ومعابد أبو سمبل وفيلة من الغرق أثناء تنفيذ مشروع السد العالي وأن يقيم صرحا عملاقا مثل أكاديمية الفنون بمعاهد الباليه والكونسرفتوار والسينما والفنون المسرحية وينشر قصور الثقافة لتقديم خدمة ثقافية لن ينساها التاريخ لجماهير شعبنا في كل مكان.
وتشارك دار الأوبرا في مئوية مولد ناصر بحفل موسيقي يقام يوم الثلاثاء المقبل لتقدم أوركسترا الموسيقى العربية على “المسرح الكبير” مجموعة من الأغاني التي تؤرخ لمرحلة حكم جمال عبد الناصر وهي المرحلة التي شهدت إقامة “قاعة سيد درويش للاستماع الموسيقي” وإعادة تكوين أوركسترا القاهرة السيمفوني وفريق أوبرا القاهرة، فضلا عن عروض الصوت والضوء بالأهرام والقلعة ومعبد الكرنك.
كما أوفد ثروت عكاشة وزير الثقافة الشهير في عصر جمال عبد الناصر والعضو بالمجلس التنفيذي لليونسكو معارض الآثار المصرية للخارج لأول مرة ليحقق التواصل الحضاري والثقافي بأروع معانيه وهو الذي أقام متحف مراكب الشمس ومتحف المثال محمود مختار ودار الكتب القومية ونظم احتفالية باقية في ذاكرة التاريخ الثقافي المصري والعالمي في العيد الألفي للقاهرة عام 1969.
وفي غمار كل هذا الجهد الثقافي العملاق لم يتوقف ثروت عكاشة الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون بباريس عام 1960 عن الكتابة والإبداع ليقدم للثقافة العربية والعالمية موسوعته في تاريخ الفن :”العين تسمع والأذن ترى” والتي جاءت في 20 جزءا ويحقق “كتاب العارف لابن قتيبة” ويقدم كتاب “مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء” وعشرات المؤلفات والأبحاث بالإنجليزية والفرنسية.
والدكتور ثروت عكاشة الذي قضى في 27 فبراير 2012 هو أيضا صاحب المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية فيما لاغنى لأي باحث جاد في دراسة “الحياة الثقافية في مصر الناصرية” عن كتابه الهام “مذكراتي في السياسة والثقافة” ثم أنه صاحب كتاب هام عن القائد المغولي جنكيز خان بعنوان “إعصار من الشرق” ولا يمكن أيضا تناسي طروحاته عن مبدعين في حجم ليوناردو دافنشي أو الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر وترجماته لروائع جبران خليل جبران.
والذاكرة الثقافية المصرية والعربية على وجه العموم تحتفظ بكل هذه الجهود العملاقة والإبداعات للوجه الثقافي المضييء لثورة 23 يوليو ومن بينها ترجمات هي سحر في البيان مثل رائعة “فن الهوى” ورائعته الأخرى “مسخ الكائنات” وكتاب الأيرلندي الخالد برنارد شو : “مولع بفاجنر”.
ومن هنا قال عنه الناقد الراحل رجاء النقاش :”الدكتور ثروت عكاشة رجل له صوت وضوء والمؤسسات الرفيعة التي أنشأها بل أنجبها هذا الرجل سوف تبقى ما بقيت مصر” ولاريب أنه في ذلك كله يعبر عن رؤية ثقافية لقائد ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر الذي ارتبط به وجدانيا.
وبعد الرحيل الفاجع والمبكر لقائد ثورة 23 يوليو يوم 28 سبتمبر الحزين عام 1970 رثاه ثروت عكاشة بقوله :”ومضى القائد العظيم..مضى بعد وقفة قصيرة بيننا لكنها خلاقة أخذنا فيها من ركود ماضينا إلى وثبات مستقبلنا” فيما اختتم عكاشة طرحه بمرثية الأرض التي ألف موسيقاها النمساوي جوستاف مالر :”لن ابتعد إلى الأبد..إلى الأبد”.
مصر التي تحتفل الآن بمئوية مولد قائد ثورة 23 يوليو لم تبتعد أبدا عن روح هذه الثورة وأحلامها النبيلة وطموحاتها العظيمة وها هي تؤسس بعد ثورة 30 يونيو 2013 للتقدم كسبيل لتجسيد معاني الاستقلال في هذا العصر بتحولاته العميقة التي تتطلب استحقاقاتها علما وخيالا وإرادة وتجددا معرفيا مستمرا تشكل كلها ما يمكن وصفه حقا “بثقافة المستقبل”.
إنه المستقبل الذي لطالما عملت ثورة 23 يوليو من أجله وصولا للغد الأفضل للشعب المصري والأمة العربية..فتحية لقائد ثورة خالدة في الذكرى المئوية لمولده.. تحية لقائد ثورة مصرية أطلقت أنبل المعاني وخاضت أشرف المعارك وكتبت مشاهد عدل خالدة وحققت إنجازات عملاقة ومحفورة في سجل المجد وأروع صفحات الذاكرة الثقافية العربية..تحية لرجل وصفه خليفته بطل الحرب والسلام أنور السادات وهو ينعيه يوم رحيله بأنه “رجل من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال”.
تقول إيمان قنديل منحة في صورة محنة، والابتلاء نعمة من عند الله ليزداد المبتلى تقربا إلى الله وحده، وفرصة لأن يرتب الإنسان أوراقة ثانية ليعيش الحياة بشكل أفضل.
المصدر : وكالة أنباء الشرق الأوسط ( أ ش أ )