باتت التوترات والحروب التجارية سمة مميزة من أبرز سمات المشهد الاقتصادي العالمي منذ أن وطأت قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سدة الرئاسة الأمريكية، في مشهد يعكس عمق التحولات الأمريكية الاستراتيجية الاقتصادية، ومردوداتها على الاقتصادات العالمية.
ففي الوقت الذي تراقب فيه الأسواق العالمية تطورات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، كاد قرار الرئيس الأمريكي ترمب بفرض رسوم جمركية بنسبة 5 في المئة على البضائع الآتية من المكسيك، اعتباراً من 10 يونيو الجاري، أن يصيب العالم بأزمة اقتصادية وحرب تجارية جديدة، وكاد أن يضيف المكسيك إلى دائرة الحرب التجارية المشتعلة، خصوصاً في ظل التوقعات السلبية بشأن معدلات النمو العالمي وحركة التجارة وبيانات الناتج الإجمالي العالمي.
ولكن بعد مفاوضات مكثفة، أعلن الرئيس الأمريكي ترامب التوصل لاتفاق مع المكسيك لنزع فتيل الحرب التجارية بين البلدين، حيث تخلى بمقتضاه عن خطط فرض رسوم جمركية على المكسيك بعد أن تعهدت الأخيرة باتخاذ خطوات جديدة لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، في الوقت الذي كشف فيه تقرير أن تنظيم “داعش” خطط لإرسال إرهابيين عبر الحدود الأمريكية المكسيكية لشل الاقتصاد الأمريكي.
وفي إطار سلسلة التوترات التجارية التي دأبت إدارة ترامب على افتعالها مؤخراً مع مختلف دول العالم، جاء الخلاف الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي واليابان بشأن قطاع السيارات، وقد منح ترامب الاتحاد الأوروبي ستة أشهر للتفاوض حول اتفاق تجارى لقطاع السيارات، وإلا سيفرض رسوما جمركية إضافية يمكن أن تلحق ضررا بنمو الاقتصاد العالمي.
وقد ذكر البيت الأبيض “أنه إذا لم يتم إبرام اتفاقات كهذه خلال 180 يوما فسيسمح للرئيس باتخاذ إجراءات أخرى يرى أنها ضرورية لتصحيح الواردات والقضاء على التهديد الذي تشكله السيارات المستوردة للأمن القومي الأمريكي”.
ولن تكون التوترات التجارية بين واشنطن وبكين الأخيرة في سياق التوجه الأمريكي الجديد الذي يقوده ترامب باسم”ترامب للعالم.. ستدفعون”، وإنما وصلت حدة الحروب التجارية إلى حد “حرب تشكيل المستقبل” بين أمريكا والصين، والتي كانت آخر حلقاتها قرار الرئيس الأمريكي بمنع تعامل الشركات الأمريكية مع شركة هواوي الصينية.
ووفقاً للتقارير الاقتصادية، فإن العقوبات الأمريكية على شركة هواوي قد تؤدي إلى مسارعة الصين بشكل غير مسبوق إلى امتلاك بدائل تكنولوجية، ربما تؤدي إلى اندلاع مواجهات من نوع جديد في مجالات التشويش الإلكتروني والتنافس التكنولوجي والعلمي الذي قد يرهق الطرفين معاً وربما العالم أيضاً.
وتشير التقارير إلى أن معركة المستقبل هي تلك التي تدور بين شركة هواوي الصينية وشركات أمريكية مثل جوجل وآبل، وبات ميدان الحرب العالمية الثالثة ليس المسرح الأوروبي للعمليات كما كان في الحرب الثانية، أو المسرح الآسيوي، بل مسرح هذه الحرب وميدانها هو فضاء التكنولوجيا الحديثة التي ترسم ملامح المستقبل.
مردودات سلبية عالمياً
وفقاً لتقارير الاقتصاد العالمية التي تصدرها المؤسسات الدولية المعنية، فإن الخاسر الأول في مثل هذه التوترات والحروب التجارية هو الاقتصاد العالمي، ومعدلات النمو فيه، ومن ثم احتمالات مرور العالم بأزمة اقتصادية عالمية في المستقبل المنظور.
ففي تقريره الصادر عن اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن، توقع صندوق النقد الدولي أن يتراجع النمو الاقتصادي العالمي من 3.6 في المئة عام 2018 إلى 3.3 في المئة خلال العام الحالي 2019، محذراً من مزيد من التباطؤ بفعل التوترات التجارية، واحتمال خروج مضطرب لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي ثالث خفض له منذ أكتوبر 2018، قال الصندوق إن بعض الاقتصادات الرئيسية، ومن بينها الصين وألمانيا، قد تحتاج إلى اتخاذ إجراءات على المدى القصير لدعم النمو، متوقعاً تباطؤاً حاداً في أوروبا وبعض الاقتصادات الناشئة يفسح المجال أمام تسارع واسع النطاق من جديد في النصف الثاني من العام الحالي.
وأرجع صندوق النقد الدولي تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي في النصف الثاني من عام 2018، إلى مجموعة من العوامل، أهمها انخفاض النمو الصيني بسبب تشديد الإجراءات التنظيمية، وزيادة التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، وافتقاد اقتصاد منطقة اليورو لزخمها، حيث تراجعت ثقة المستهلك والأعمال، وتعطل إنتاج السيارات في ألمانيا بسبب تطبيق معايير جديدة للانبعاثات ، وتراجع الاستثمار في إيطاليا، فضلاً عن تراجع الطلب الخارجي، خصوصاً من دول آسيا.
في الوقت نفسه، توقع البنك الدولي أن يتباطأ نمو الاقتصاد العالمي في 2019 إلى 2.9 في المئة قياساً بحوالى 3 في المئة في عام 2018، وهو ما أرجعه البنك إلى تصاعد التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وضعف حركة التجارة العالمية.
ورجح البنك الدولي أن يتباطأ الاقتصاد الأمريكي إلى 2.5 في المئة هذا العام، من 2.9 في المئة عام 2018، فيما توقع أن ينخفض نمو الاقتصاد الصيني إلى 6.2 في المئة مقارنة بحوالي 6.5 في المئة عام 2018.
وتشير التقارير الاقتصادية العالمية إلى أنه ومع التحسن المرتقب في النصف الثاني من 2019، يُتوقع عودة النمو الاقتصادي العالمي إلى معدل 3,6% في عام 2020. وتعتمد هذه العودة على حدوث تعافٍ في الأرجنتين وتركيا وبعض التحسن في مجموعة من اقتصادات الأسوق الصاعدة والاقتصادات النامية الأخرى الواقعة تحت ضغوط.
كما توقع البنك الدولي أنه فيما بعد عام 2020، سيستقر النمو في مستوى 3,5% تقريبا، بدعم أساسي من النمو في الصين والهند وزيادة وزنيهما في الدخل العالمي. أما في الاقتصادات المتقدمة فإن التباطؤ التدريجي سيتواصل مع انحسار أثر إجراءات التنشيط المالي في الولايات المتحدة وميل النمو في هذه المجموعة نحو مستواه الممكن المحدود، نظرا لاتجاهات الشيخوخة وانخفاض نمو الإنتاجية. أما النمو في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية فسوف يستقر في مستوى 5% تقريبا، مع تفاوت كبير بين البلدان نظرا لضعف الآفاق المتوقعة لبعضها بسبب انخفاض أسعار السلع الأولية والصراعات الأهلية.
وبينما يمكن أن يحقق النمو العالمي مفاجأة سارة إذا تمت تسوية التوترات والخلافات التجارية بسرعة لاسترداد ثقة الأعمال وتحسين مزاج المستثمرين، إلا أن ميزان المخاطر المحيطة بآفاق الاقتصاد العالمي لا يزال يرجح كفة التطورات السلبية. فمن الممكن أن يقل النمو الاقتصادي العالمي إذا زاد تصاعُد التوترات التجارية وما يصاحبه من زيادة في عدم اليقين بشأن السياسات التي تتبعها الدول، وتميل الاحتمالات إلى جانب الانخفاض في موازين الاقتصادات والأسواق العالمية.
المصدر : أ ش أ