تحظى قضية التغير المناخي حاليا بأهمية أولية على الساحة الدولية، وأصبحت تحتل مكانة بارزة على جدول أعمال المؤتمرات والقمم الدولية، وكان آخرها قمة الدول السبع المنعقدة حاليا بمدينة بياريتس الفرنسية.
وفرضت قضية التغيرات المناخية نفسها على جدول أعمال القمة كقضية رئيسية خاصة في أعقاب حرائق الغابات التي دمرت أجزاء كبيرة من منطقة الأمازون ، والتي دفعت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاتهام نظيره البرازيلي جايير بولسونارو بأنه “كذب” بشأن تعهداته حول المناخ و”بعدم التحرك” في مواجهة هذه الحرائق التي تدمر “رئة العالم”.
في هذا السياق ، سلط الرئيس ماكرون الضوء، في حديث تلفزيوني أمس قبل انطلاق فعاليات قمة الدول السبع، على الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة بشأن المناخ والتنوع البيولوجي قائلا “أنتم تعرفون عدم اتفاقنا حول هذا الشأن مع دول بعينها وخاصة الولايات المتحدة.”، مؤكدا أنه “يجب علينا تلبية النداء الطارئ للمحيطات والغابات التي تحترق في الأمازون” من خلال العمل معا على تخفيض الانبعثات الحرارية وثاني أكسيد الكربون.
وقضية تغيّر المناخ أصبحت من أكثر القضايا المحورية التي تحظى باهتمام كبير على مختلف الأصعدة، خاصة أنها تحولت مؤخرا لواحدة من أبرز الأسباب وراء اندلاع الصراعات في جميع أنحاء العالم، فقد أصبحت تداعيات تغير المناخ حقيقة ملموسة في كل مكان، وأصبحت تؤثر بشكل مباشر على حياة البشر، كما أنها تشكل عائقا ملحوظا أمام نمو الكثير من الاقتصادات الوطنية.
ووفقا للتقارير والأبحاث التي أجريت في هذا الشأن، فإن الدول الصناعية تمثل الأطراف الرئيسية المسببة للتغير المناخي من خلال الانبعاثات الناجمة عن استخدام “الوقود الأحفوري” كمصدر رئيسي للطاقة، بمعنى أن الاعتماد الأكبر يتركز على النفط والغاز والفحم بينما تقتصر مساهمة مصادر الطاقة البديلة من الوقود العضوي والطاقة الشمسية والرياح بنسبة ضئيلة، وهو ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون وارتفاع حرارة الأرض والتغيرات البيئية.
وخلال الأربعين عاماً الماضية، ساهمت التغيرات المناخية بدرجة كبيرة في خسارة الأرض لنحو ثلث الأراضي الصالحة للزراعة، ويعيش أكثر من 1.3 مليار شخص على الأراضي الزراعية المتدهورة، مما يعرضهم لخطر تراجع الإنتاجية، الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الجوع والفقر والتشرد، خاصة في ظل عجز المؤسسات والحكومات على إدارة الضغوط أو امتصاص الصدمات الناتجة عن تغير المناخ.
وعلى مدار نصف القرن الماضي أدى التغير المناخي إلى تفاقم التفاوت بين دول العالم، إذ عرقل النمو في الدول الأكثر فقراً، بينما ساهم بدرجة كبيرة في زيادة معدلات الرفاهية لدى بعض دول العالم الأكثر ثراء.. وكشفت دراسة حديثة أن الفجوة بين الدول الأشد فقراً وتلك الأكثر ثراءً تزيد الآن بنسبة 25%عمّا كانت ستصبح عليه لو لم تشهد الأرض ظاهرة الاحتباس الحراري وما ينتج عنها من ارتفاع لدرجة حرارة الكوكب.
واللافت هنا أنه على الرغم من أن الفقراء مسؤولون عن جزء بسيط فقط من الانبعاثات العالمية، إلا أنهم في المقابل يتحملون الجانب الأكبر من عواقب تغيُّر المناخ، مع قدرة أقل على حماية أنفسهم من تبعاته، في الوقت الذي تعرقل فيه الدول الغنية التوصل إلى اتفاقيات دولية من شأنها تقديم مساعدات ذات مغزى للدول النامية، لدعم جهودها الرامية لمواجهة تبِعات التغير المناخي.
ومع تفاقم آثار التغير المناخي، تزايدت أعداد الأشخاص المتضررين من نحو 100 مليون في 2015 إلى 204 ملايين في 2016. وتضاعفت الخسائر العالمية من 50 مليار دولار سنوياً في الثمانينات إلى 200 مليار دولار خلال العقد الأخير، حتى بلغت خسائر العالم عام 2017 حوالي 340 مليار دولار نتيجة الكوارث الطبيعية المدمرة.
كما أدى التغير المناخي إلى زيادة أعداد النازحين سنوياً لتصل إلى 23.5 مليون شخص، وبلغت تكلفة الرعاية الصحية للمتضررين من هذه التداعيات عالمياً نحو 4 تريليونات دولار بما يعادل 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2018.
من جانبها، حذرت منظمة الصحة العالمية أنه من المتوقع بين عامي 2030 و2050، أن يؤدي تغير المناخ إلى ارتفاع أعداد الوفيات لتصل إلى 250 ألف حالة إضافية سنويا، بما في ذلك 38 ألف من كبار السن بسبب تعرضهم لحرارة الشمس، إضافة إلى 48 ألف سيتوفون بسبب الأمراض والملاريا، بينما قد تبلغ حالات الوفيات من الأطفال ما بين 60 إلى 95 ألف نتيجة سوء التغذية، كما أعلنت الأمم المتحدة أن تكلفة الأضرار المباشرة على الصحة ستكون بين 2 و4 مليارات دولار سنويا بحلول عام 2030.
وتشكل التغيُّرات التدريجية للمناخ تهديدا ملحوظا أيضا، مثل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدل هطول الأمطار، وأثّرت حالات الجفاف وحدها على أكثر من مليار شخص خلال العقد الماضي. وتظهر بيانات 2017 الصادرة عن البنك الدولي أن الجفاف منذ 2001 تسبب في خسارة العالم كميات من المنتجات تكفي لإطعام 81 مليون شخص يومياً كل سنة، أي ما يعادل سكان بلد بحجم ألمانيا.
ووفقا للمراقبين، فإن نحو ملياري شخص من الأكثر فقراً حول العالم يواجهون تهديداً استثنائياً بفقدان سبل العيش وخسارة الموطن لأسباب مختلفة، يأتي في مقدمها تغير المناخ.
وفي ضوء الأهمية المتزايدة التي أصبحت تحظى بها قضية التغير المناخي، تستضيف الأمم المتحدة في 23 سبتمبر المقبل قمة “العمل المناخي”، والتي من المقرر أن تتناول أسباب هذه الظاهرة والعمل على وضع حلول طموحة لهذه القضية مثل الطاقة المتجددة، وخفض الانبعاثات، والبنى التحتية المستدامة، والزراعة المستدامة وإدارة الغابات والمحيطات على نحو مستدام، وتحمّل آثار الظواهر المناخية، والاستثمار في الاقتصاد الأخضر.
ويؤكد المراقبون أنه من الصعب مواجهة العواقب الكارثية المحتملة لتغير المناخ إلا في حالة تعاون جميع الدول معًا بهدف خفض معدلات انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة كبيرة، وتعزيز قدرة سكان العالم على مواجهة مخاطر التقلبات المناخية وتغيرها.
وفي بعض الحالات، ستتطلب مواجهة الآثار المناخية تغييراً جذرياً في آلية إنتاج الغذاء وكيفية إدارة الأرض من أجل حماية مكاسب التنمية وتقليل خطر تصاعد الصراعات إضافة لذلك، من الأهمية بمكان تعزيز التعاون وتبادل بين دول الجنوب الأكثر فقرا في الجنوب، التي تعد الأكثر احتياجا للتأقلم مع التغيُّرات المناخية.
في هذا السياق، يعمل “اتحاد جامعات الدول الأقل نمواً” منذ بداية عام 2017 على دعم تبادل المعرفة بين جامعات الدول النامية ومعاهدها التدريبية ، وهناك أيضا مبادرة “التكيّف مع أفريقيا” التي تقدم نموذجا آخر على الجهد الفعال لتسريع إجراءات التكيُّف على نطاق واسع، من خلال مساعدة الحكومات على تطوير وتنفيذ خطط التكيّف الوطنية، والوصول إلى تمويل ملائم للتصدي للتغيُّر المناخي، وتعزيز خدمات المعلومات المناخية لتقليل تأثيرها على صحة البشر والبيئة بشكل عام.
ومع الإقرار بأهمية الطرق المبتكرة التي يتعامل بها الأشخاص والمنظمات مع آثار تغير المناخ على الفقراء، إلا أنها لا تكفي وحدها ما لم تكن الدول الغنية جادة في خفض الانبعاثات والحد من الأضرار الناتجة عنه.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)