أتاح قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصادر يوم الأحد الماضى ، والذي يقضي بانسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا، الفرصة لتركيا لبدء تنفيذ عملياتها العسكرية على شمال شرق سوريا الليلة الماضية ، والتي بدأت بضربات جوية تدعمها نيران المدفعية، مخلفة وراءها خسائر كبيرة في قوات سوريا الديمقراطية ” قسد” التي تعاونت مع الولايات في مواجهة عناصر تنظيم داعش الإرهابي .
كشف هذا التتابع السريع في الأحداث السياسية للأزمة السورية، عن ارتباك وتشابك وخلط أوراق اللعبة السياسية في المشهد السوري وتعقيداته وإثارة العديد من التساؤلات حول دوافع القرار الأمريكي وتداعياته على مختلف الأطراف المباشرة وغير المباشرة المعنية والمنخرطة في الأزمة السورية.
فقد قال ترامب فى تغريداته مؤخرا “كان من المفترض أن تكون الولايات المتحدة فى سوريا لمدة ٣٠ يوما، كان ذلك قبل سنوات عديدة، لكننا بقينا وتدخلنا أعمق وأعمق فى معركة دون هدف فى الأفق، والقوات الأمريكية وصلت سوريا عندما كان تنظيم داعش ينتشر فى المنطقة، وسريعا هزمنا داعش بنسبة ١٠٠٪، بما فى ذلك القبض على الآلاف من مقاتليه ومعظمهم من أوروبا”.
وأضاف ترامب: “حارب الأكراد معنا، لكن نحن دفعنا كميات ضخمة من المال والمعدات للقيام بذلك، لقد قاتلوا تركيا منذ عقود، لقد أوقفت هذه المعركة بينهما لما يقرب من ٣ سنوات ، لكن حان الوقت بالنسبة لنا للخروج من هذه الحروب السخيفة التي لا نهاية لها – التي كثير منها قبلية – وإعادة جنودنا إلى الوطن، سنقاتل فى المكان الذى يتعلق بمصالحنا، وسنحارب فقط من أجل الفوز”.
وقد وضع انسحاب الولايات المتحدة من سوريا ، حلفاءها الأكراد عرضة للغزو التركي وهو ما حذر منه الجمهوريون والديمقراطيون بالولايات المتحدة من أن السماح لتركيا بشن هجوم على سوريا، سيبعث برسالة مُقلقة لحلفاء واشنطن في جميع أنحاء العالم.
وغداة تعرض قراره لانتقادات من أعضاء في الكونجرس ومسؤولين سابقين، ومن دول ومنظمات دولية أخرى، حاول ترمب التخفيف من ذلك، إذ حيث أكد عدد الجنود الذين انسحبوا من منطقتي تل أبيض ورأس العين، لم يتجاوز الـ50 جندياً، مشدداً على أن الولايات المتحدة “لم تتخلَّ عن الأكراد” في سوريا. وأعلن ترمب أيضاً عن اجتماع مرتقب مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في 13 من الشهر المقبل.
كان قرار ترامب الأصلي بالانسحاب في ديسمبر 2018 ، قد أثار عاصفة مماثلة من الانتقادات وتسبب في استقالة كل من وزير دفاعه الجنرال جيم ماتيس والمبعوث الأمريكي الخاص إلى قوات التحالف بريت ماكجورك، وتوالت ردود الفعل الرافضة لهذا القرار، وخصوصاً من قيادات الحزب الجمهوري الأكثر ولاءً له.
تفسيرات قرار الانسحاب الأمريكي
يطرح المحللون عدة تفسيرات للقرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا ، التفسير الأول يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، بمعنى أن يكون الرئيس الأمريكي قرر تنفيذ سياساته وبرامجه الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة وعنوانها “الانطواء داخليا”، والانسحاب من التدخلات العسكرية الخارجية ووضع مصالح الشعب الأمريكي فوق كل اعتبار وفق شعاره “أمريكا أولاً”.
.. التفسير الثاني ، يتعلق بإجراء نوع ما من المقايضات السياسية سواء بين أمريكا وتركيا أو بين أمريكا وروسيا، وهذا التفسير يرتبط بجانب كبير منه في تصريحات ترامب تعليقاً على استعداد تركيا لضرب شمال شرق سوريا، فقد كتب سلسلة من التغريدات التي يهدد فيها أنقرة بتدمير اقتصادها إذا فعلت شيئا فيه تجاوز للحدود، وهو ما فسر البعض بأن ترامب قد أعطى الضوء الأخضر للضربة التركية لشمال سوريا.
.. التفسير الثالث يرتبط بتطورات الأحداث في الداخل الأمريكي على خلفية الإجراءات التي يتخذها الحزب الديمقراطي في مجلس النواب تمهيداً لعزل ترامب في إطار الصراع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين على كرسي الرئاسة الفترة المقبلة.
ووفقاً لمراقبين ، فإن الانسحاب الأمريكي وضع الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية ) في مواجهة تركيا، وهذه القوات كانت شريكا لواشنطن في سوريا لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي ، في حين تعتبرها أنقرة جماعة إرهابية بسبب صلتها بحزب العمال الكردستاني، ويُشكل أكراد سوريا الموجودون بشكل رئيسي في شمال البلاد نحو 15% من مجموع السكان ومعظمهم من المسلمين السنة، مع وجود نسبة ضئيلة من غير المسلمين.
بدأ الدعم الأمريكي العسكري لأكراد سوريا في منتصف ديسمبر 2017 عقب توقيع ترامب قراراً تنفيذياً يقضي بتخصيص نحو 400 مليون دولار لتسليح “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) خصوصاً لدى تحول دورها من قتال “داعش” إلى الحفاظ على الأرض المسيطَر عليها، وتبع صدور هذا القرار تقديم واشنطن شحنات من السلاح والعتاد العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية، التي تُشكل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
واضطلعت الوحدات الكردية بدور رئيسي في التحالف الدولي الذي قادته واشنطن في قتال تنظيم «داعش»، بعدما نجحت هذه الوحدات في دحر التنظيم في مناطق واسعة في شمال شرق سوريا ، وساهم الدعم الأمريكي لـ«قسد» في تعميق الفجوة مع أنقرة التي تقلق من قيام كيان كردي في شمال سوريا قرب حدودها الجنوبية؛ ما أدى إلى تضييق الفجوة بين أنقرة وموسكو إزاء الأزمة السورية لتنفيذ القرار 2254 الذي نص على وحدة الأراضي السورية.
غير أن هذه الحماية لم تستمر؛ بعدما أخلت القوات الأمريكية موقعين للمراقبة في تل أبيض ورأس العين في شمال شرقي سوريا على الحدود مع تركيا، امتثالاً لقرار ترمب الأخير، وتعرضت هذه المواقع للغزو التركي.
خلط الأوراق والتداعيات
انطلاق العدوان التركي على شمال شرق سوريا، بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، سحب قوات بلاده جزئياً و«تغريداته» حول تركيا والأكراد، ، كشف عن خلط الأوراق واللعبة السياسية بين الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية، بل إن تداعيات قرار الانسحاب باتت محيرة بشدة سواء على مستقبل الأزمة السورية أو على مستقبل العلاقات بين القوى الدولية وأمريكا، وتأثير تلك العلاقات على ملفات الأزمات السياسية الأخرى على مستوى العالم، حيث قال ترامب “سيتعين الآن على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد تسوية الوضع”.
أولاً، فيما يتعلق بتداعيات الانسحاب على التسوية السياسية في سوريا والتي بدأت تلوح في الأفق بشائرها على خلفية الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية التي تتكفل بقيادة التسوية السياسية للأزمة، تشير تقديرات الكثير من المراقبين، إلى أن قرار الانسحاب الأمريكي سيؤدي إلى تعطيل وربما القضاء على مسار الحل السياسي، القائم على بيان جنيف والقرار الأممي 2254، الذي تبنته الأمم المتحدة كأساس لعملية التسوية السياسية.
وفي حالة الانسحاب الأمريكي من سوريا، فإن دورها في التسوية الأممية للحرب في مرحلة ما بعد تنظيم “داعش” سيكون دورا هامشياً، حتى على مستوى القوى الحليفة لها، التي ستتجرد من الكثير من أوراق الضغط لصالح روسيا وإيران والنظام.
وفي أسوأ التقديرات السياسية يشير المحللون إلى أن مستقبل التسوية السياسية في سوريا سوف يكتنفه الغموض وربما تطوي صفحاتها الأخيرة، وتنتهي فكرة بناء نظام سياسي جديد يحقق رضاء جميع السوريين عنه، لصالح مشروع تقاسم النفوذ على الأرض السورية، بانتظار التوصل إلى خارطة سياسية واستراتيجية تلبي مصالح خارجية إقليمية ودولية.
ثانياً، أما التداعيات على مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية، فيشير مراقبون إلى أن الأزمة السورية كانت تشكل أحد ركائز الخلاف بين روسيا وأمريكا، ومرت لحظات توتر بين الطرفين، كادت أن تؤدي لتصادم بين قواتهما العاملة في سورية.
وإذا كان مراقبون يعتبرون أن الانسحاب الأمريكي سيؤدي إلى تحسن العلاقات بين الطرفين (واشنطن وموسكو) ، إلا أن آخرين يرون أنه من غير المرجح أن يكون لهذا الانسحاب تأثير ذو وزن على العلاقات بين الطرفين، لأن الانسحاب الأمريكي لن يتضمن اعترافا بالدور الروسي في الأزمة وهو ما يحرم روسيا من تحقيق عوائد سياسية، وستبقى روسيا معرضة لخطر الانزلاق في مستنقع الأزمة السورية ما لم تستطع تحقيق صيغة سياسية موائمة للحل.
وأخيراً يبقى القول أن الانسحاب الأمريكي من سوريا وبدء العدوان العسكري التركي على مناطق الأكراد في شمال شرق سوريا، سيسمح بإعادة هيكلة للمظلة الأمنية الدولية والإقليمية لبسط نفوذها على المشهد السياسي السوري خلال الفترة المقبلة.
المصدر:أ ش أ