شهدت الساحة السياسية في فرنسا تغيرات ملحوظة خلال الأشهر القليلة الماضية تجلت مظاهرها في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، والتي أدخلت فرنسا في استقطاب ثنائي جديد بين حزب “الجمهورية إلى الأمام” بزعامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، و”التجمع الوطني” اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن، في الوقت الذي تراجعت فيه الأحزاب التقليدية داخل المشهد الفرنسي، وفشلت في تحقيق نتائج مقبولة في السباق الانتخابي.
وجاءت نتائج الانتخابات الأوروبية، التي أجريت من 23-26 مايو الماضي، لتعكس ما تشهده الساحة الفرنسية من تغيرات في التركيبة السياسية، فقد تصدر حزب “التجمع الوطني” نتائج الانتخابات بحصوله على 24% من الأصوات، يليه “الجمهورية إلى الأمام” بنسبة 23% من الأصوات. وجاءت المفاجأة بحصول حزب الخضر، المناصر للبيئة، على المركز الثالث بنسبة 12.7%، بينما تراجع حزب الجمهوريين ليأتي في المركز الرابع بنسبة 8.48%، وتساوى الحزب الاشتراكي وحركة “فرنسا المتمردة”، اليسارية المتشددة، بحصول كل منهما على نحو 6% من الأصوات.
ووفقا للمراقبين، فإن هذه النتائج حملت العديد من الدلالات للمشهد الفرنسي الراهن، أولها التراجع الملحوظ في مكانة الأحزاب التقليدية الفرنسية سواء حزب “الجمهوريين” الذي يمثل يمين الوسط، أو الحزب الاشتراكي الذي يمثل الجناح اليساري. ويرى المراقبون أن النتائج التي حصل عليها “الجمهوريون” في الانتخابات الأوروبية كانت نتيجة طبيعية لحالة الضعف والهشاشة التي يشهدها الحزب خلال المرحلة الراهنة، فقد تراجعت شعبية الحزب بصورة ملحوظة لدى الفرنسيين الذين أصبحوا يرون أنه غير قادر على مواجهة أي من القضايا الملحة التي تشهدها البلاد، وهو ما ظهر في استطلاعات الرأي التي أوضحت أنه حلول الحزب في المركز الثالث بعد حزبي ماكرون ولوبن من حيث قدرته على التصدي لقضايا مثل الهجرة والبطالة وضعف القدرة الشرائية.
ويعاني الحزب أيضا من أزمة انقسام داخلية، لا سيما مع توالي الاستقالات لقياداته، وغياب شخصيات كاريزمية تمسك بدفته. وكان من أوائل المغادرين لوران فوكيي زعيم الحزب، والذي تقدم باستقالته عقب النتائج المتردية التي حصل عليها “الجمهوريون” في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وكان دائما محل انتقادات لاتهامه بالتفرد واتباع نهج يميني قريب من اليمين المتطرف، كما انسحبت فاليري بيكريس التي تعتبر من أبرز القيادات في الحزب.
وعكست هذه الاستقالات المأزق الذي يعيشه الحزب، أو اليمين التقليدي بشكل عام، والذي أثَر سلبا على حضوره على الساحة الفرنسية.
أما الحزب “الاشتراكي” فوضعه ليس أفضل حالا من الجمهوريين”، فهو يعاني من أزمات متوالية ظهرت جلية منذ عدة سنوات وبالأخص خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة حيث تراجعت معدلات التصويت له بصورة ملحوظة، كما أنه يفتقد وجود قيادات بارزة داخله حتى أنه اضطر لمنح رئاسة لائحته في الانتخابات الأوروبية، لشخصية من خارج الحزب هي رافائيل غلوكسمان، والذي يتبنى نهجا خارجا عن خط اليسار، وحقق نتائج متردية في الانتخابات.
من الدلالات أيضا التي كشفتها الانتخابات الأوروبية الأخيرة دخول فرنسا في استقطاب ثنائي جديد بين الحزب الحاكم “الجمهورية إلى الأمام” وحزب اليمين المتطرف “التجمع الوطني”. فالأول نجح في اجتياز الاختبار الصعب الذي كان ينتظره بعد أن تمكن من تحقيق نتيجة مقبولة إلى حد كبير في الانتخابات الأوروبية مؤكدا أن أزمة “السترات الصفراء” لم تنل منه، مما أفسح المجال أمامه لبناء أغلبية جديدة. ومن هنا جاء سعي ماكرون لاستقطاب شخصيات بارزة من حزب “الجمهوريين” يعارضون النهج اليميني المتشدد الذي كان يتّبعه فوكييه، وبالفعل أعلن 40 من زعماء اليمين والوسط في بيان نشرته صحيفة “لوباريزيان”، عن انخراطهم في “دعم سياسات الرئيس ماكرون”.
أما “التجمع الوطني”، رمز اليمين المتطرف الفرنسي، فقد نجح في أن يصبح المعارض الرئيسي لحزب ماكرون مستفيدا بذلك من حالة التشرذم التي تسود اليمين واليسار. فبعد النتيجة المتقدمة التي حققها في الانتخابات الأوروبية، تعززت مكانة التجمع الوطني على الساحة الفرنسية وزادت ثقة المواطنين في قدرته على مواجهة التحديات الراهنة، وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي ومن بينها استطلاع معهد “ايفوب” الأخير الذي أظهر أن 56% من الفرنسيين يعتقدون أن اليمين المتطرف هو الأقدر على مكافحة الجريمة، وأن 63% منهم يرون أن حزب مارين لوبن هو المؤهل للسيطرة على الهجرة، بينما يرى 45% من المستطلعة أراؤهم أن “التجمع الوطني” هو الأكثر قدرة على الدفاع عن الطبقات المتوسطة.
وكشفت نتائج الانتخابات الأوروبية أيضا أنه إلى جانب أمور الاقتصاد، فإن هناك قضايا أخرى مثل الهجرة والمناخ يمكن أن تلعب دورا محوريا في تحديد اتجاهات الناخب الفرنسي وتغيير دفة التصويت. وأكبر دليل على ذلك حصول حزب الخضر، المعني بقضايا المناخ، على المركز الثالث في الانتخابات الأوروبية في سابقة من نوعها، متقدما بذلك على الأحزاب التقليدية.
كما نجح الرئيس ماكرون في استخدام قضية المناخ لتعزيز شعبيته حيث أبدى مواقف تثبت انحيازه للمناخ وفتح بابا للحوار مع الإيكولوجيين واستطاع جذب بعض قياداتهم، فضلا عن إعلانه قبل ساعات من الانتخابات الأوروبية، رفض أي اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة بسبب انسحابها من “اتفاق باريس للمناخ” عام 2017، وهو ما ساهم في تحسين معدلات التصويت له.
فضلا عن ذلك، ساهمت قضايا الهجرة في تعزيز مكانة اليمين المتطرف، حيث ارتفعت نسبة إقبال مناصريه على التصويت هذه المرة لأنهم كانوا يقاطعون الانتخابات من قبل لشعورهم بعدم جدوى المشاركة وعدم إمكانية إحداث تغيير في الحياة السياسية الفرنسية، ولكن هذه المعطيات تغيرت مع تفكك اليسار وتراجع الأحزاب التقليدية المحافظة من يمين الوسط، وبدأت نسبة مشاركتهم في الانتخابات تتزايد وتعكس حضورهم الحقيقي على الساحة الفرنسية.
في ضوء ما سبق، يبدو أن نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة أعطت إشارات واضحة لملامح المشهد السياسي الفرنسي خلال الفترة المقبلة. فتراجع اليمين التقليدي وتشرذم اليسار هي مؤشرات على أن الحياة السياسية الفرنسية غيرت محركها السياسي لينحصر بين قطبين أساسيين هما حزب ماكرون الوسطي وحزب لوبن الشعبوي.
ومن المرجح أن تنعكس هذه الخريطة السياسية الجديدة على الاستحقاقات الانتخابية القادمة في فرنسا وعلى رأسها الانتخابات البلدية المقرر عقدها في مارس 2020. وفي حالة عدم نجاح الأحزاب التقليدية في لملمة أوراقها واستعادة نفوذها على الساحة الفرنسية، فعلى الأغلب سينحصر السباق الرئاسي عام 2022 بين ماكرون ولوبن للمرة الثانية.
المصدر:أ ش أ