ينذر تدهور الأحوال الاقتصادية في الضفة الغربية المحتلة، بتفجر الأوضاع واندلاع فوضى عارمة، يصعب السيطرة عليها، وسط تحذيرات أمريكية وإسرائيلية لحكومة بنيامين نتنياهو التي يُسيطر عليها اليمين المتطرف الإسرائيلي بضرورة الإفراج عن “أموال المقاصة” المُحتجزة لدى الاحتلال، وإيجاد حل لمُشكلة العمال الفلسطينيين الذين تم إلغاء تصاريح عملهم داخل إسرائيل، لنزع فتيل قنبلة “موقوتة” إذا انفجرت ستفتح على إسرائيل جبهة قتال جديدة.
فمنذ “طوفان الأقصى” الذي بدأته فصائل المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة – نتيجة الحصار الجائر المفروض على القطاع منذ 17 عامًا، والذي استهدف ما تسمى بمُستوطنات غلاف غزة ومدن جنوب إسرائيل – ألغت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تصاريح العمال الفلسطينيين داخل أراضي الـ 48 (إسرائيل).. وشمل الإلغاء الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة.
وكانت نسبة ليست بالقليلة من الفلسطينيين في الضفة الغربية تعتمد على العمل داخل الخط الأخضر من أجل إعاشة أسرهم أو على الأقل توفير نفقاتهم الشخصية.. وتسبب إلغاء تصاريح العمل للفلسطينيين في مشاكل اقتصادية كبيرة في الضفة الغربية، وبالطبع في قطاع غزة.. وترافق ذلك مع انهيار المؤشرات الاقتصادية في الضفة الغربية نتيجة غلق العديد من المشروعات والأعمال التجارية نتيجة للحصار الشديد الذي فرضه الاحتلال بين مُحافظات الضفة التي تقطعت أوصالها، لعدد من الأسباب أبرزها انتشار حواجز التفتيش والاعتداءات من قبل المُستوطنين على الفلسطينيين.
وما يزيد من الضغوط الاقتصادية الهائلة على كاهل الفلسطينيين في الضفة الغربية، أن حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية أصدرت قرارًا باحتجاز جزء من أموال المقاصة التي تحولها إلى السلطة الفلسطينية بصورة شهرية بحجة أن السلطة الفلسطينية تحول هذه الاموال إلى حركة “حماس” في قطاع غزة.
ونتيجة لذلك، رفضت حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية استلام أموال المقاصة “منقوصة” من إسرائيل، مُعتبرة أن هذا من شأنه أن يمهد لفصل الضفة الغربية رسميًا عن القطاع، وأكد التزام القيادة الفلسطينية بواجباتها تجاه المواطنين الفلسطينيين في القطاع، ودفع رواتب عائلات الأسرى الذين تعتقلهم إسرائيل في سجونها، وهو ما ترفضه إسرائيل، التي تعتبر هذا الأمر “تمويلا للإرهاب” من وجهة نظرها.
وتحدثت موظفة بالسلطة الفلسطينية عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها الموظفون، مشيرة إلى أن موظفي الحكومة لم يكونوا يتقاضون رواتبهم كاملة منذ نحو عامين، وكان يصرف لهم 80% منها نتيجة للتضييق المالي الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية، لكن الوضع ازداد سوءا منذ السابع من أكتوبر، ولم يعد يصرف لهم سوى 50% من الراتب كل شهر ونصف.
وأشارت الموظفة إلى أن المعلومات المعلنة هي أن السلطة تقترض أموال رواتب موظفيها من البنوك.. وقالت إن الأسوأ أن الحديث يتردد عن صرف 50% فقط كل شهرين أي بمعنى 25% فقط من الراتب.
وقال حازم بدران، وهو شاب في العقد الثالث من عمره من سكان مدينة البيرة في وسط الضفة، إنه يعيش في سكن شبابي ليتمكن من دفع الإيجار، إذ أنه يعمل موظفًا براتب محدود في إحدى المدارس.. وقال بدران إن الوضع الاقتصادي آخذ في الانهيار بسبب حرب غزة وبسبب الاقتحامات في مُحافظات الضفة وهو ما أثر على الاقتصاد، مُعربًا عن أمله في تحسن الأوضاع مع الوقت.
وواجهت الغالبية من أصحاب المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة خسائر صعبة أجبرتهم على غلق متاجر، بعد أن حاصرتهم الديون، وعدم استطاعتهم على الوفاء بسداد إيجارات المحال التجارية، في ظل توقف حركة الشراء، نتيجة لهذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وقال محمود أبو شنب مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام بوزارة الاقتصاد الفلسطينية، في حديث خاص لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط، إن قيمة الخسائر في فلسطين منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحتى نهاية ديسمبر الماضي، بلغت حوالي 2.3 مليار دولار، نتيجة التوقف شبه التام في عجلة الإنتاج لقطاع غزة وتداعياتها على الضفة الغربية.
وأشار أبو شنب إلى أن ذلك يُعادل حوالي 25 مليون دولار يوميًا، باستثناء الخسائر المباشرة في الممتلكات والأصول.
وأضاف أن “قطاع المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر والمتوسطة تمثل السمة الأبرز للاقتصاد الفلسطيني.. أنت تتحدث على ما يقارب 95 % من الاقتصاد تتمثل في هذه المنشآت .. لقد سجلنا تراجعا حادا في القيمة الانتاجية لهذه المنشآت .. بعضها أيضا أغلق بحدود 29 في المئة.. في الضفة الغربية نتيجة عدم القدرة على التسوق وانخفاض القُدرة الشرائية وتغير أنماط الاستهلاك .. مع الأخذ بعين الاعتبار أن مصادر السيولة النقدية في السوق الفلسطيني حاليا باتت محدودة جدا وتعتمد على رواتب الموظفين الحكومية، والحكومة الفلسطينية تواجه حصارا ماليا واقتصاديا من الاحتلال الإسرائيلي، وهذا انعكس سلبًا على كل مجريات الحركة التجارية في السوق الفلسطيني مع الأخذ في الاعتبار أيضًا العمال الفلسطينيين الذين يعلمون في الداخل الفلسطيني والذين لم يستطيعوا الوصول إلى أماكن عملهم نتيجة القرار الإسرائيلي بمنع العمالة الفلسطينية، وبالمجمل العام هذا انعكس على دورة الحياة الاقتصادية في السوق الفلسطيني.. وحاليا نأخذ بعين الاعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي سجل تراجعًا حادًا في 2023 بنسبة تقريبية 6%، بعد أن كان من المفترض أن يسجل نموًا بنسبة 3%، وتركز الانخفاض بالدرجة الأولى في الربع الأخير من العام المنصرم نتيجة العدوان الاسرائيلي وتداعياته على مُجمل الاقتصاد في المدن والمحافظات الفلسطينية.
وقال أبو شنب: “أزمة الرواتب لم تبدأ منذ 7 أكتوبر ولكنها أزمة مستمرة منذ عام 2022.. إسرائيل تمارس حصارًا ماليًا وابتزازا سياسيًا في الجانب المالي، وتقوم بقرصنة أموال المقاصة الضريبية، وبالتالي تعمقت الأزمة بدرجة أكبر بعد 7 أكتوبر باتخاذ قرار بقرصنة الأموال التي تدفعها الحكومة الفلسطينية لقطاع غزة، وبطبيعة الحال لم تتمكن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين وأيضا باتجاه القطاع الخاص، وهذا ترك أثرًا عميقًا على الحياة الاقتصادية والمعيشية للمواطن الفلسطيني في مُختلف مكونات المجتمع الفلسطيني.. والحكومة اضطرت لأخذ قرض تجميعي حتى تتمكن من ضخ سيولة في السوق الفلسطيني وحتى يتمكن المواطن والموظف بالقيام بواجباته وتقديم الخدمة للمواطنين.. الوضع صعب ومُعقد والضغط الاقتصادي وما تمارسه حكومة الاحتلال هدفه بالدرجة الأولى إضعاف السلطة الوطنية، ومحاولة تمرير سياسات وأهداف إسرائيلية، ولكنها لن يُكتب لها النجاح”.
سعت إسرائيل منذ أن ألغت تصاريح العمال الفلسطينيين، الاستعانة بعمال ومُزراعين آخرين من تايلاند وفيتنام ومن دول آسيوية أخرى منخفضة الراوتب، لتعويض النقص في العمالة الناجم عن تسريح العمالة الفلسطينية.
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية في وقت سابق هذا الشهر وفي الأسابيع التالية للحرب، إن الحكومة الإسرائيلية تبحث في جلب 80 ألف عامل أجنبي من سريلانكا والصين والهند وتايلاند ومولدوفا، خاصة في قطاعي البناء والزراعة.. لكن التقارير الإسرائيلية ذاتها شككت في قدرة الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ الخطة في فترة الحرب وسد الفجوة، علمًا بأنه قبل الحرب كان هناك نحو 125 ألف فلسطيني من الضفة الغربية و18500 من قطاع غزة يحملون تصاريح عمل في إسرائيل، وذلك حسب إحصاءات رسمية إسرائيلية، وهذا لا يتضمن آلاف العمال ممن يعملون بدون تصاريح.
وبحسب وحدة تنسيق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والمعروفة اختصارا بـ “كوجات”، فقد انخفض عدد العمال الفلسطينيين الذين يدخلون إسرائيل من الضفة الغربية يوميًا إلى حوالي 8000 بعد أن كان نحو 124 ألف عامل قبل “طوفان الأقصى”.. وقال مصدر رسمي فلسطيني لوكالة الشرق الأوسط إن هذا العدد المحدود هو لعمال يعملون في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وليس داخل إسرائيل.
لكن في الوقت الذي تسعى إسرائيل للاستعانة بالعمال الأجانب، تواجه مشاكل مع هذه الدول التي تتهمها بتعريض مواطنيها للعمل في بيئة خطيرة لاذ منها الإسرائيليون بالفرار.
وقالت الإذاعة المولدوفية إن إسرائيل وضعت مواطنيها في “مناطق صراع شديدة الخطورة”، واحتجزت جوازات السفر الخاصة بهم، وارتكبت انتهاكات أخرى بحقهم أثناء سد الفجوات في القوى العاملة لديهم الناجمة عن الحرب الحالية في غزة.
وأكدت وزارة العمل المولدوفية أنه “تم تأجيل – بشكل مؤقت – الجولة الأخيرة من محادثات التوظيف”.
وأشار موقع “والا” الإسرائيلي الأحد الماضي إلى أنه بضغط من جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، تدرس الحكومة الإسرائيلية خطة إعادة دخول العمال الفلسطينيين الذين يبلغون 45 عامًا فما فوق، ومن الذين ليس لديهم سجل أمني، خوفًا من انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة الغربية، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية. وفي اليوم ذاته، حذر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت من انفجار الأوضاع في الضفة الغربية ودعا إلى تنظيم أوضاع العمال الفلسطينيين.
وقال أحد الفلسطينيين في الضفة الغربية في تصريح لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط – دون ذكر اسمه حرصًا على سلامته الشخصية – إن حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل ترتكب خطأ فادحًا بمنع العمال الفلسطينيين الذين سيتحولون إلى قنبلة موقوتة تنفجر في وجه إسرائيل، مُتوقعًا أن تشهد الفترة القادمة تصعيدًا في العمليات الانتقامية، ليس بدافع المقاومة، ولكن هذه المرة بدافع الانتقام، فمن يفقد لقمة عيشه، ليس لديه ما يخسره (من وجهة نظره).
لكن صحيفة (يسرائيل هايوم) لفتت يوم الخميس الماضي إلى أن نتنياهو يواجه انتقادات من داخل حزب “الليكود” على خلفية سعيه إعادة العمال الفلسطينيين، ويرى هؤلاء أن إدخال 170 ألف عامل فلسطيني سيفجر الوضع داخل إسرائيل في ظل الحرب الحالية على قطاع غزة، وجاءت الانتقادات لنتنياهو بعد ثلاثة أيام من هجوم نفذه فلسطينيان في منطقة “رعنانا” شمال “تل أبيب”.
وقال مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام بوزارة الاقتصاد الفلسطينية محمود أبو شنب إن قرار إسرائيل المتعلق باستبعاد العمالة الفلسطينية يجعلها هي الخاسر الأول والأخير، مُشيرًا إلى أن الاقتصاد الاسرائيلي يعتمد بالدرجة الأولى على العمالة الفلسطينية، وهي عمالة ماهرة وتتميز بجودة عالية جدًا.
وأضاف أن قرار إسرائيل على هذا الصعيد هو أداة من أدوات الضغط الاقتصادي وفرض مزيد من الهيمنة الاقتصادية على السوق الفلسطيني، مُشيرًا إلى أن الحكومة الفلسطينية جاهزة لاستيعاب جميع العمالة التي كانت تعمل داخل إسرائيل، ولكن هذه الجاهزية مشروطة برفع القيود الاسرائيلية، والسيطرة عن مكونات الاقتصاد الفلسطيني وحرية الوصول للموارد الطبيعية.
وأكد أن فلسطين تخسر سنويا ما قيمه 3.4 مليار دولار نتيجة عدم التمكن من الاستثمار في المناطق المسماة (ج) في الضفة الغربية، ومنذ عام 2000 وحتى عام 2022 تقدر خسائر فلسطين من الاحتلال بما يقارب 50 مليار دولار.. وعاود أبو شنب التأكيد على أن إسرائيل تتبع سياسة التمييز العنصري فيما يتعلق بالاستغناء عن العمالة الفلسطينية، مُشيرًا إلى أن إسرائيل حاولت في ظروف مُماثلة سابقًا الاستغناء عن العمالة الفلسطينية، ثم باءت مُحاولاتها تلك بالفشل، ولأسباب داخلية تتعلق بها.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)