تعد التحركات السياسية والدبلوماسية التي تقوم بها فرنسا أبرز التحركات الدولية بشأن الأزمة بين إيران وأمريكا، والتي نتجت عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، لأن التحركات الفرنسية تتواكب مع اقتراب استحقاق السادس من سبتمبر الجاري وهو الموعد الذي حددته طهران للعمل بـ”المرحلة الثالثة” من الخطوات التي قررتها للتخلي التدريجي عن بنود الاتفاق النووي.
ولعل تأكيدات المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، “أن وجهات النظر بين إيران وفرنسا تقاربت فيما يتعلق ببرنامج طهران النووي”، تؤكد جدية الطرح والمبادرات الفرنسية، خصوصاً بعد مكالمات هاتفية بين الرئيس الإيراني حسن روحاني، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأضاف ربيعي قائلاً: “لحسن الحظ أصبحت وجهات النظر أقرب في كثير من القضايا، وتجري الآن مناقشات فنية بشأن سبل تنفيذ التزامات الأوروبيين في الاتفاق النووي”.
إذ تسعى باريس مدفوعة بالنجاح الذي حققته في قمة بياريتز بشأن الملف النووي الإيراني ومتسلحة بالدعم الأوروبي لجهودها من أجل خفض التصعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، كما برز ذلك في اجتماعات هلسنكي لوزراء الخارجية والدفاع الأوروبيين، يومي 30 و31 أغسطس االماضي، إلى المحافظة على الديناميكية الجديدة وترجمة المقترحات والمبادرات التي طرحتها على الطرفين إلى خطوات عملية.
دبلوماسية الهاتف وتبادل الوفود:
وتطبيقاً لدبلوماسية الاتصالات الهاتفية، اتصل الرئيس إيمانويل ماكرون بنظيره الإيراني حسن روحاني، وخلاله أكد روحاني بأن “تنفيذ أطراف الاتفاق النووي التزاماتهم وتأمين الملاحة الحرة في جميع الممرات المائية ومنها الخليج ومضيق هرمز يعدان بمثابة هدفين رئيسيين في المفاوضات الجارية”. ومن جهته، أكد ماكرون مجدداً “أهمية الحراك الجاري حالياً لتهيئة الظروف لخفض التصعيد عبر الحوار وبناء حل دائم في المنطقة”.
وجاء في بيان لقصر الإليزيه، عقب الاتصال، أن ماكرون نوه بـ”أهمية الديناميكية الراهنة من أجل توفير الظروف للحوار وبناء حل دائم في المنطقة، وقد ذَكر ماكرون روحاني بضرورة التزام إيران الكامل (بتنفيذ) واجباتها النووية (المنصوص عليها في اتفاق عام 2015)، وأن تقوم بالخطوات الضرورية من أجل إعادة الأمن والسلام للشرق الأوسط، وضرورة العمل من أجل وضع حد للحرب في اليمن وفتح باب المفاوضات، وحض على أهمية التزام أقصى درجات ضبط النفس في لبنان وتجنب كل ما من شأنه ضرب الاستقرار في مرحلة تتميز بالتوترات الكبرى”.
وتكتسب محادثات الوفد الاقتصادي الإيراني الجارية في باريس برئاسة عباس عراقجي، المساعد السياسي لوزير الخارجية، أهمية كبيرة خاصة لأنها ستدخل في تفاصيل ما يمكن أن تحصل عليه طهران من الجانب الأمريكي، الأمر الذي برر قول الرئيس ماكرون، بمناسبة قمة السبع أن “الشروط الضرورية” لقمة ترمب ــ روحاني ولاتفاق بينهما قد توافرت.
وقد أكد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أمس الثلاثاء، أنه “لا يزال هناك الكثير مما يتعين تسويته” في المفاوضات بين الدول الأوروبية وإيران لمحاولة إنقاذ الاتفاق النووي، وفق “وكالة الصحافة الفرنسية”.
ولفت لو دريان إلى أن المحادثات مع إيران بشأن فتح خطوط ائتمان بضمان عائدات النفط الإيراني مستمرة، وأن الخطة ستعتمد في نهاية الأمر على إصدار الولايات المتحدة إعفاءات من العقوبات المتعلقة بصادرات النفط الإيرانية.
وأوضح لودريان أن الفكرة هي “مبادلة خط ائتمان بضمان عائدات النفط في مقابل، أولاً العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني)، وثانياً أمن الخليج وبدء مفاوضات بشأن أمن المنطقة و (البرنامج النووي) ما بعد 2025، كل ذلك بافتراض أن يصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إعفاءات”.
وفي موازاة محادثات باريس، كان المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي يؤكد من طهران، أمس الثلاثاء، أن بلاده قادرة على استئناف إنتاج اليورانيوم المخصّب بدرجة نقاء 20 في المائة في غضون يومين.
ويعتبر تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء تصل إلى 20 في المائة مرحلة وسيطة مهمة على طريق الحصول على يورانيوم انشطاري بنسبة نقاء 90 في المائة، وهي ما يلزم لصنع قنبلة.
وكان الرئيس ماكرون قد عرض مقترحاً أو مبادرة للتسوية على الرئيس ترامب في بياريتز ترتكز على منح امتيازات اقتصادية مقابل تنفيذ طهران كامل تعهداتها النووية، ووقف تقليصها.
وتضمنت المقترحات أو المبادرة أولاً: منح إعفاءات للعقوبات على النفط الإيراني. وثانياً: إيجاد خط إئتماني بمبلغ 15 مليار دولار لطهران عبر قناة “إنستكس” المالية الأوروبية التي دشنتها الترويكا الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، خلال الشهر الماضي، للتجارة غير المحظورة مع إيران.
وبالنسبة لإيران فالمقترح الأول هو الأنسب، وهي على ما يبدو مستعدة للتعاطي إيجابيا معه، لكن بشرط أن تحصل على عوائد النفط الذي ستبيعه بموجب تلك الإعفاءات، وأيضا أن لا تقل عن تلك الإعفاءات السابقة التي شملت ثماني دول من مشتري النفط الإيراني، قبل أن توقفها واشنطن اعتبارا من الثاني من مايو الماضي.
حدود وآفاق الوساطة الفرنسية:
ثمة اعتبارات ومعطيات تتميز بها الوساطة الفرنسية عن بقية الوساطات، وهي: أولا، أن باريس هي طرف أساسي في الاتفاق النووي، على عكس بقية الأطراف الدولية التي حاولت التوسط في الأزمة بين أمريكا وإيران، ما يعطي لتحركها دوافع إضافية، للإبقاء على هذا الاتفاق كأهم ثمار للدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف على مدى عقود من الزمن.
ثانيا أن فرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تتطلع إلى قيادة الاتحاد وذلك من خلال بوابة القيام بأدوار صعبة في ملفات عالمية، وفي مقدمتها الملف الإيراني. وثالثا أن فرنسا باعتبارها أحد الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن الدولي تحظى بموقع مهم في السياسة الدولية. وأخيراً أن فرنسا تنوب في الوساطة عن أوروبا القلقة من تداعيات التوترات بين طهران وواشنطن على أمنها، الأمر الذي يعطي لحراكها زخماً سياسياً أكثر قوة.
ومع اقتراب السادس من سبتمبر الجاري، لم تتكشف الأمور عن طبيعة وفحوى البنود التي قد تعمد طهران للتخلي عنها في “المرحلة الثالثة.
لكن المرجح، وفق خبراء الشأن النووي الإيراني هو أمران: الأول، الارتقاء بالتخصيب إلى درجة أعلي مما وصل إليه. حيث يفيد التقرير الصادر مؤخرا عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية المكلفة مراقبة برنامج طهران النووي أن التخصيب زاد من 3.67 في المائة وهي النسبة المسوح بها إلى 4.5 في المائة. إلا أن ذلك ما يزال بعيدا جدا عما تستطيع الطاردات المركزية الإيرانية القيام به حيث كانت تخصب بنسبة تقل قليلا عن 20 في المائة. لذا من المرجح أن تعمد طهران إلى رفع نسبة التخصيب ولكن ليس حتما إلى ما كانت عليه سابقا لأنها تعتمد سياسة التدرج.
إن الاشكالية التي تواجه الوساطة الفرنسية تكمن في صعوبة التوفيق بين المطالب الإيرانية والأمريكية المتباعدة، حيث تصر طهران على بيع نفطها وأن تحصل على عوائدها نقدا من دون أن تتم مقايضتها بالسلع، وذلك في إطار الاتفاق النووي، بعيدا عن التفاوض المباشر مع الإدارة الأمريكية، لكن الأخيرة ترفض تقديم هذا التنازل، وهي مصرة على إطلاق مفاوضات مباشرة، وهو ما ترفضه إيران، رابطة إياها بشروط “تعجيزية” مثل عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، ورفعها جميع العقوبات.
وتدرك السياسة الفرنسية أن الجلوس على طاولة الحوار المباشر هو الوسيلة الأنجح للتوصل لحل لهذا الملف المعقد، وتتطلع باريس إلى عقد لقاء بين روحاني وترامب خلال الأسابيع القادمة وتحديدا على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الجاري.
ورغم الإشارات الإيجابية التي تلقاها الرئيس الفرنسي أخيرا من نظيره الإيراني، حول احتمال لقائه مع ترامب، إلا أن مفتاح التفاوض المباشر مع واشنطن، بيد المرشد الإيراني، الذي أعلن حظر التفاوض واللقاء مع الأمريكيين في أي مستوى.
ويبقى القول إن جهود الوساطة الفرنسية ستتواصل خلال المرحلة القادمة، لضمان استمرار العمل بالاتفاق النووي وتقليص حالة التوتر المستمرة في العلاقات الأمريكية الإيرانية، لتداعياتها السلبية على أوروبا والأمن والاستقرار في العالم.
المصدر : أ ش أ