جاءت احتجاجات كتالونيا لتمثل تحديا رئيسيا أمام الأحزاب السياسية الإسبانية في الانتخابات التشريعية القادمة، والمقرر عقدها في العاشر من نوفمبر المقبل، وهو ما فرض حالة من التوتر والاحتقان الشديد داخل المشهد السياسي الإسباني يُتوقع أن يكون له انعكاسات واضحة على الاقتراع القادم.
وتعيش كتالونيا حالة من التوتر الشديد منذ قرابة عشرة أيام، عقب صدور الأحكام القضائية بحق قادة انفصاليين- وغالبيتهم أعضاء سابقين في الحكومة الإقليمية لكتالونيا- لمدد تصل إلى 13 عاما، بتهمة التحريض على العصيان، وسوء التصرّف بالمال العام؛ وذلك خلال محاولة فاشلة للاستقلال عام 2017.
وأدى صدور هذه الأحكام إلى تفجر احتجاجات في مختلف أنحاء الإقليم، شارك فيها أكثر من نصف مليون شخص، واندلعت أعمال العنف بين المتظاهرين ورجال الشرطة؛ ما أدى إلى سقوط مئات الجرحى، واعتقال آخرين، وتحولت أزمة كتالونيا إلى محور اهتمام الأحزاب الوطنية الإسبانية التي طرحت جانبا برامجها الانتخابية، وربطت تحركاتها ومواقفها بتطورات الأزمة في كتالونيا سعيا لتحقيق مكاسب انتخابية دون تقديم أي حلول واضحة لكيفية الخروج من هذه الأزمة.
ومن ناحية قام رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز بزيارة مفاجئة إلى برشلونة يوم /الاثنين/ الماضي، والتي لم يعلن عنها من قبل كما هو الحال دائما تفاديا لاندلاع مظاهرات احتجاجية ضده، مؤكدا خلال الزيارة على دعم الحكومة للجرحى من قوات الشرطة الذين أصيبوا في مواجهات الأسبوع الماضي مع المتظاهرين.
من ناحية أخرى، عمد زعماء الأحزاب اليمينية إلى شن هجوم ضد سانشيز، منذ بدايات الأزمة؛ لعدم اتخاذه مواقف متشددة لمعالجتها ومواجهة الاحتجاجات العنيفة، ومن ناحية ثالثة، تظهر علامات التصدع داخل المعسكر الانفصالي في كتالونيا، والمنقسم منذ أشهر بين مؤيد للحوار، وإعادة تنظيم الصفوف استعداداً لتشكيل قاعدة شعبية أوسع يصعب على مدريد تجاهلها، وبين فريق آخر مصرّ على المضي في المغامرة حتى النهاية أياً كانت العواقب.
وعلى الرغم من أن الهدوء عاد نسبيا إلى برشلونة خلال الأيام الماضية، دعت منظمات في كاتالونيا مؤيدة للانفصال للتظاهر بعد غد السبت في برشلونة احتجاجا على ما أسمته “قمع الدولة الإسبانية”، ودفاعا عن “حرية” القادة الانفصاليين الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية، بينما دعت منظمات المجتمع المدني الكاتالونية المناهضة للانفصال إلى التظاهر يوم /الأحد/ اعتراضا على أعمال العنف وفكرة الاستقلال عن الحكومة المركزية في مدريد.
ويأتي ذلك في الوقت الذي قدمت فيه الأحزاب الانفصالية في كتالونيا، التي تسيطر على البرلمان والحكومة في الإقليم، مشروع قرار من المتوقع أن يتم التصويت عليه خلال الأسبوع الجاري، تلتزم فيه بمواصلة العمل على تقديم اقتراحات تؤكد حق تقرير المصير.
وفي خضم تلك الأحداث، تصاعدت حدة التوتر بين برشلونة ومدريد، وظهر ذلك واضحا خلال الرسالة التي رد فيها سانشيز على رئيس الحكومة الإقليمية في كاتالونيا جواكيم تورا الذي حاول الاتصال برئيس الحكومة عدة مرات، لكن دون جدوى، مؤكدا في رسالته أن “الواجب الأول لأي مسؤول سياسي هو الحرص على أمن المواطنين، والسهر على سلامة الأماكن العامة والخاصة في وجه التصرفات العنيفة”، وهو ما لم يقم به تورا، بل جاء تصرفه “في الاتجاه المعاكس تماما” على حد قوله.
ووفقا لحكومة مدريد فإن تورا كان يحرض المتظاهرين على تصعيد المواجهة مع قوات الأمن والشرطة، وهو ما يتعارض مع دوره كرئيس لجميع الكاتالونيين سواء المؤيدين لأفكاره أو المعارضين لها.
وكان سانشيز قد طالب تورا في الساعات الأخيرة أن “يدين أعمال العنف خطيا، كشرط مسبق للحديث معه، ولم يستجب تورا لهذا المطلب، وجاء رده بأن رفض سانشيز الحديث معه يعني “التخلي عن مهامه” كرئيس للحكومة، وأنه كان من المفترض بسانشيز أن يوجه إليه رسالة يعرب فيها عن أسفه الشديد لقرار المحكمة العليا، مشيرا إلى أن الاحتجاجات لن تتوقف حتى تقبل حكومة مدريد الاستماع إلى مطالب الانفصاليين.
ويبدو أن هدف تورا من لقاء سانشيز هو ضمان مناقشة إجراء استفتاء قانوني آخر حول الاستقلال، وهو أمر غير مطروح بالنسبة لمدريد، ويتبدى بوضوح مما سبق أن فرص الحوار المباشر أصبحت شبه منعدمة بين الحكومتين المركزية والإقليمية، الأمر الذي قد يكرس القطيعة بين الطرفين، وهو ما سيحمل تداعيات سلبية على مسار الأزمة، لاسيما في هذا التوقيت الحرج الذي تستعد فيه البلاد لخوض الانتخابات التشريعية الشهر المقبل.
وساهمت أزمة كتالونيا في زيادة حالة الاستقطاب السياسي داخل البلاد في هذه المرحلة المهمة، حيث أنها أدت إلى تراجع شعبية الحزب الاشتراكي الحاكم، مقابل تزايد التأييد للحزب الشعبي المحافظ المعارض، وتوقعت استطلاعات الرأي، التي أجرتها مؤخرا صحيفة “إلدياريو” الإسبانية أن يحصل الاشتراكيون بقيادة سانشيز على 117 مقعدا في البرلمان المؤلّف من 350 مقعدا، أي أنه سيخسر ستة مقاعد مقارنة بالنتيجة التي حققها في انتخابات أبريل الماضي حين نال 123 مقعدا، بينما توقعت حصول حزب الشعب على 103 مقعدًا مقابل 66 مقعدا يشغلها حاليا.
ويتفق عدد كبير من المراقبين على أن أزمة كتالونيا سيكون لها انعكاسات واضحة على مسار الانتخابات المقبلة، حيث توقع هذا الفريق أنه في حالة استمرار تصعيد الاحتجاجات وأعمال العنف، فمن المرجح أن تأتي الانتخابات المقبلة بأغلبية يمينية تتبنى نهجا متشددا؛ لمواجهة الحركة الانفصالية التي قد ترغب من جديد في الإعلان عن استقلال من طرف واحد، وتفتح الأزمة على احتمالات في غاية الخطورة.
المصدر:أ ش أ