جاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإرجاء البت في رفع العقوبات الإقتصادية عن السودان لمدة ٣ شهور تنتهي في ١٢ أكتوبر المقبل ، على عكس ما توقع الكثيرون في الأوساط السياسية السودانية ، الذين كانوا يأملون في الرفع النهائي الكامل لها ، مؤكدين أن الخرطوم نفذت كل ما عليها وما طلب منها في هذا الملف ، وما تضمنه من مسارات خمسة تم الإلتزام بها جميعا ، معتبرين أن القرار سيكون له تبعات سلبية سياسيا وإقتصاديا.
في حين مثل القرار لساسة ومحللين ومسئولين آخرين سوادنيين وأمريكيين أمرا متوقعا ، ورأى فيه البعض نقاطا وإشارات إيجابية كثيرة ، وأكدوا أن التواصل بين الجانبين لن يتوقف ، بل ربما يكون القرار بداية لمرحلة جديدة من التعاون بين واشنطن والخرطوم ، وهو ما وثقته أيضا تصريحات مسئولين في الجانبين ، بجانب مطالب شركات أمريكية بالاستثمار في السودان عقب صدور القرار.
وأرجأ قرار الرئيس الأمريكي الصادر في ١٢ من يوليو الجاري البت في قرار الرفع الدائم للعقوبات عن السودان لمدة ثلاثة شهور، وأقرت وزارة الخارجية الأمريكية ـ في بيان ـ أن السودان أحرز تقدماً كبيراً ومهماً في الكثير من المجالات ، لكنها قالت إن الأمر يحتاج إلى ثلاثة أشهر أخرى.
وقال البيان ” سترفع الولايات المتحدة العقوبات إذا جرى تقييمها (حكومة السودان) بأنها تحرز تقدماً مستمراً في هذه المجالات بنهاية فترة المراجعة الممتدة”.
وأكدت الخارجية الأمريكية أن الأمر يحتاج إلى ثلاثة شهور أخرى للتأكد من أن السودان عالج بشكل تام مخاوف واشنطن.
وفي رد فعل على القرار الأمريكي ، أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قراراً جمهورياً بتجميد لجنة التفاوض مع الولايات المتحدة حتى 12 أكتوبر المقبل.
من جانبه ، أعرب وزير الخارجية السوداني الدكتور إبراهيم غندور عن أسفه لقرار الإدارة الأمريكية إرجاء مراجعة رفع العقوبات عن السودان ، مؤكدا أن بلاده مازالت تتطلع لرفع هذه العقوبات نهائيا ، لافتا إلى أن قرار البشير يعني تجميد اللجنة وليس وقف التعامل والحوار مع أمريكا.
وقال غندور إن السودان – وباعتراف الجهات الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة – قد أوفى بكل ما عليه من المسارات التي تم تحديدها وتعاون في كافة الملفات ، وإن السودان لا يرى سبباً منطقيا لهذا القرار ، معربا عن أمله في أن يراجع القرار وترفع العقوبات نهائيا ، مؤكدا التزام بلاده بتنفيذ كافة ما سبق والتزم به.
ووجه الشكر للدول الشقيقة والصديقة لبلاده ، علي جهودها ومساعيها لرفع العقوبات بصورة نهائية ، مثمنا جهود الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية والجهات الأخرى في هذا الصدد.
وقال إن السودان سيمارس حقوقه كدولة ذات سيادة كاملة باعتبار أن ذلك مسئولية وطنية ، مؤكدا التزام السودان بالتعاون المؤسسي مع المؤسسات الأمريكية في حدود العلاقات الطبيعية، موضحاً أن بلاده أوفت بكل مطلوبات رفع العقوبات وليس لديها ما تقدمه أكثر من ذلك.
وأضاف إن كل التقارير الأمريكية والدولية تؤكد التزام السودان بتنفيذ المسارات الخمسة : مكافحة الإرهاب ، مكافحة جيش الرب ، السلام في جنوب السودان ، السلام في السودان والشأن الإنساني ، وبإشادة من الأمم المتحدة.
واعتبر أن تمديد العقوبات يبعث برسالة سالبة للحركات المتمردة في السودان ويؤدي لتعنتها وإصرارها على استمرار الحرب ، محذراً في ذات الوقت من التصعيد العسكري ومحاولة العبث بأمن البلاد ، وقال ” سنرد على كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن واستقرار السودان ، وندعو العقلاء من الحركات المتمردة للانضمام لركب السلام”.
وقال غندور إن ملف حقوق الإنسان لم يكن ضمن المسارات الخمسة وأن السودان يفتخر بسجله في حقوق الإنسان ، داعياً للتصدي لكل من يحاول تلفيق الأكاذيب والادعاء بانتهاك حقوق الإنسان في السودان (حسب تعبيره).
ونوه إلى أن القرار لا علاقة له بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه السوداني ، عازيا ذلك للمضاربات في سوق العملة.
من جهته ، كلف مجلس الوزراء السوداني وزارات القطاع الإقتصادي باتخاذ إجراءات متعددة من بينها خفض الواردات لتقليل آثار القرار الأمريكي ، إضافة إلى زيادة الإنتاج والصادرات.
وأكد المجلس ـ في بيان ـ استمرار الحكومة وتعاونها مع دول الإقليم وكل الأشقاء والأصدقاء والمجتمع الدولي لتحقيق الاستقرار انطلاقاً من مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول ، وكذلك استمرار التعاون التجاري والإقتصادي مع الولايات المتحدة.
بدوره ، قال مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم إن الجهود الرسمية والشعبية مع الإدارة الأمريكية بهدف رفع العقوبات الاقتصادية ستظل مستمرة ، موضحا أن قرار الرئيس يختص بوقف لجنة التفاوض مع الولايات المتحدة.
وحمّل المطالبين بعدم رفع العقوبات الأمريكية عن السودان مسئولية ما يعانيه الشعب السوداني، مضيفا” تمديد رفع العقوبات يشجع رافضي السلام على الإستمرار في معاداة السودان وشعبه”.
وقال محمود ” إن العالم ينتظر من السودان لعب أدوار مهمة في محيطه الإقليمي ودول الجوار لتحقيق الأمن والإستقرار ، غير أن القرار يشجع أصحاب المصالح الشخصية على زعزعة الأمن والاستقرار داخل البلاد والدول المحيطة بها” ، مؤكدا ثقته في تجاوز التحديات التي تواجهها البلاد اعتماداً على الشعب السوداني وموارده التي يزخر بها.
من جهته ، أكد حزب المؤتمر الوطني الحاكم بالسودان أن السودان وعلي مدي تاريخه الطويل ظل حريصا علي إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية تقوم علي أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
من جانبها ، قالت الأحزاب والقوى السياسية الموقعة على اتفاقيات السلام بالسودان إن القرار الأمريكي الأخير تسبب في خسائر مادية ومعنوية ويحرم السودان من التقنيات التكنولوجية والاستثمارات الأجنبية.
وأشارت إلى اتفاقها مع الحكومة السودانية على مواصلة الحوار عبر القنوات الدبلوماسية والفعاليات الشعبية مع الحكومة الأمريكية، مناشدة الدول الإقليمية والصديقة ومنظمات المجتمع المدني التأثير على الإدارة الأمريكية لرفع العقوبات.
وأكد وزير الدولة بوزارة الاستثمار السودانية أسامة فيصل أن السودان سيقابل تمديد مهلة الرفع الكلي للعقوبات الأمريكية لثلاثة أشهر أخرى بمزيد من تسهيل العملية الاستثمارية ، متوقعا أن الشركات العالمية ستتعامل مع السودان لإدراكها لمصلحتها في ظل الركود العالمي.
وقال فيصل إن السودان يُعدُّ إحدى الواجهات الأساسية في العالم للبحث عن الموارد غير المستغلة ، وإن موقعه الإقليمي يجعله سوقاً كبيراً للكثير من الشركات العالمية ، لافتا إلى أنه سيظل بوابة اقتصادية استثمارية في أفريقيا لبعض الدول العظمى.
من جهته ، قال وزير الدولة بوزارة الخارجية حامد ممتاز إن هناك عدة مكاسب حققها السودان في ظل التفاوض مع الجانب الأمريكي خلال المرحلة الماضية ، أهمها تغيير مفاهيم مؤسسات أمريكية كانت معادية للسودان.
وقال وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني محمد عثمان الركابي إن الحكومة لم تستفد من قرار رفع العقوبات الجزئي الصادر مطلع العام الحالي في مجال التعاون المصرفي والتجاري نظراً للمغالاة من قبل المصارف والبنوك التجارية العالمية خاصة الأمريكية والأوروبية.
وأضاف أن قرار التمديد الجديد لم يضف قيوداً على الوضع القائم ، مشيرا الى أنه تضمن توجيهاً للسلطات والأفراد والمؤسسات الأمريكية للتعامل المباشر مع الحكومة في التجارة والصادرات والواردات والمعاملات المالية الأخرى.
ووصف الركابي التوجيه الأمريكي بالتطور الإيجابي ، مؤكدا تنسيق المالية مع الوزارات المختصة والبنك المركزي لمواصلة برامجها وخططها في إنفاذ سياسات الإصلاح الاقتصادي والمالي والبرنامج الخماسي والخطة الاستراتيجية الثالثة وموازنة عام 2017 ، وتضمين الأولويات في إنفاذ مخرجات الحوار الوطني وفق موجهات اللجنة العليا.
ونوه باستمرار التعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإفريقي والصناديق العريية والدول الصديقة بشأن تحقيق الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية للقطاعات الإنتاجية ، مع استمرار العمل على إكمال إجراءات إعفاء الديون الخارجية.
وكشف وزير المالية عن حصول السودان على خطابات وتأكيدات من المؤسسات الأمريكية تؤكد الفك الكامل للتحويلات المالية من وإلى السودان من جميع أنحاء العالم اعتباراً من يوم الخميس الماضي.
ورأى وزير المالية السوداني أن حصولهم ، ولأول مرة منذ الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية في يناير من العام الماضي ، على خطابات مكتوبة وممهورة من المؤسسات المالية الأمريكية بشأن التحويلات المصرفية يعتبر انفراجة كبيرة في علاقات السودان مع القطاع المالي العالمي والمؤسسات الدولية والبنك وصندوق النقد الدوليين والمستثمرين والمصارف والبنوك ، إضافة إلى عموم المغتربين السودانيين المقدر عددهم بنحو ٥ ملايين يحولون في العام خارج المصارف نحو ٦ مليارات دولار.
وأكد الركابي أنه رغم قرار إرجاء البت في رفع العقوبات كليا ، فإن السودان حقق مكاسب كبيرة لمسألة التحويلات المالية والمصرفية العالمية ، حيث تلقت الخرطوم خطاباً مكتوباً بتوقيع الخزانة الأمريكية يفيد بالفك الكلي (للتحويلات) وانسياب التحويلات المالية.
بدوره ، أكد رئيس الاتحاد العام لأصحاب العمل السوداني سعود البرير أن قرار الإدارة الأمريكية ليس له تأثير علي ارتفاع أسعار الدولار ، موضحا أن الرخصة العامة التي حملها قرار الرفع الجزئي في يناير الماضي ما زالت سارية ، وليس هناك أي مبرر لزيادة سعر العملة الصعبة ، وأن ما يحدث هو نتيجة لمضاربات في السوق لا داعي لها.
من جانبه ، قال محافظ بنك السودان المركزي الدكتور حازم عبد القادر “على الرغم من أننا كنا نأمل أن يرفع الحظر الأمريكي الاقتصادي كليا في يوليو الجاري ، إلا أننا نؤكد أن تمديد النظر في الرفع الكلي للعقوبات عن السودان حتى أكتوبر القادم لا يستوجب بالنسبة لنا أي تغيير يذكر في السياسات والأوضاع بالجهاز المصرفي ، وذلك لأن السياسات السارية الآن تم وضعها في ظل الحظر”.
وأضاف ” إننا سوف نستمر في تطبيق سياساتنا النقدية والمصرفية وسياسات سعر الصرف الحالية ، بجانب توفير النقد الأجنبي لتغطية الالتزامات المتعلقة باستيراد السلع الاستراتيجية ، مثل المنتجات البترولية والقمح والدقيق وغيرها ، بالإضافة إلى سداد الالتزامات للجهات الخارجية ، بجانب احتياجات السفر للسياحة والعلاج والحج”.
وعلى الجانب الآخر، قال القائم بالأعمال الأمريكي بالسودان ستيفن كوتسيس إن العلاقات بين واشنطن والخرطوم ستشهد تطوراً مهماً ولن تعود للوراء.
وفي غضون ذلك ، بحث وفد من مجموعة شركات أمريكية برئاسة مدير عام شركة كابيتال بارتنر ترادينج بيتر واتسون ، مطلع الأسبوع الجاري بالخرطوم ، مع وزير النفط والغاز السوداني عبد الرحمن عثمان عبد الرحمن الفرص الاستثمارية المتاحة في صناعة النفط والغاز بالسودان.
وتناول الجانبان تطوير صناعة النفط من الاستكشاف إلى الإنتاج عبر إدخال تكنولوجيا حديثة ، بجانب تطوير المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب ومصافي التكرير وكل ما يتعلق بعمل الصناعة النفطية بجوانبها المختلفة في المنبع والمصب ، إضافة إلى إيجاد المعلومات المطلوبة لإقامة جدوى اقتصادية للمشاريع وخلق شراكات في قطاعت أخرى داخل السودان.
وقلل واتسون من تأثير تمديد مهلة العقوبات الأمريكية ٩٠ يوماً أخرى على دخول الشركات الأمريكية في مجال الاستثمار في السودان ، وقال إن قرار تمديد مهلة العقوبات ليس فيه شروط جديدة تمنع دخول الشركات الأمريكية للاستثمار في السودان ، بل يشير إلى أن هناك اتجاهاً إيجابياً برفع الحظر كلياً بعد انقضاء الفترة المحددة.
وأكد حرصهم على أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية لاعباً أساسياً في الاقتصاد السوداني ، عبر شراكات استراتيجية من القطاع الخاص والعام الأمريكي.
وأشار إلى استمرار التعاون بين السودان والشركات الأمريكية في مجال الطاقة، وجذبهم لكبرى الشركات للعمل في قطاع النفط والقطاعات الأخرى ، وذلك عبر الاستفادة من الرخصة العامة التي كفلها قرار الإدارة الأمريكية ، لافتا إلى أن السودان سيكون أفضل مناخ لاستثمارات الولايات المتحدة الأمريكية.
وأشاد واتسون بالجهود المبذولة من قبل الحكومة السودانية عبر السياسات والخطط على المستوييْن الاقتصادي والسياسي لتحقيق التنمية والتقدم.
من جانبه ، أكد وزير النفط والغاز جاهزية السودان للتعاون مع الشركات الأمريكية العاملة في المجال ، مشددا على أهمية تبادل المنافع بين البلدين بالاستفادة من التكنولوجيا والخبرة الأمريكية في مجال النفط والغاز ، وإمكانيات وثروات السودان في الصناعة النفطية، والعديد من الفرص الجاذبة في هذا القطاع.
ورحَّب الوزير برغبة هذه الشركات في بحث الفرص المتاحة للاستثمار في قطاع النفط السوداني ، مؤكدا أن بلاده ستظل تمد يدها لكل من يرغب في خلق شركات اقتصادية تعود بالفائدة الكبرى للطرفين.
يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية فرضت عام 1997 عقوبات اقتصادية على السودان ، وأصدر الرئيس السابق باراك أوباما أمرا تنفيذيا في 12 يناير الماضي بتعليق العقوبات جزئيا بشكل مؤقت لمدة 6 أشهر ، يتم خلالها تقييم التقدم المحرز من قبل الحكومة السودانية في عدد من الملفات ، على أن يبت عقب انتهاء تلك المدة في رفع العقوبات بشكل نهائي من عدمه.
المصدر : أ ش أ