رغم أن التركيز على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المنصوص عليها في اتفاقية باريس للمناخ أصبح من أولويات العديد من الدول ، إلا أنه يبدو أن سداد فاتورة عبث الإنسان بالطبيعة حان موعدها بشكل أكثر إلحاحا صيف العام الحالى ، فها هو شهر أغسطس يهل بحرارته ورطوبته ليزيد من معاناة البشر مع المناخ بإنعكاساته السلبية الصحية والنفسية والمزاجية ، وذلك بعدما شهدت عدد من الدول العربية والآسيوية والأوروبية خلال الشهور الماضية موجات حر غير عادية تسببت في أضرار بالجملة .
فقد أدت موجة الحر متعددة المظاهر إلى حرائق اتلفت آلاف الهكتارات من الغابات في الولايات المتحدة الأمريكية ، وحول العاصمة اليونانية اثينا اندلعت الحرائق الأشد ضررا والتي أسفرت عن 77 قتيلا في عام 2007 ، وفى اليابان ارتفع عدد الوفيات جراء موجة الحر الشديد التي تشهدها منذ أسبوعين، وتم نقل الكثيرين لوحدات الرعاية المركزة بالمستشفيات بسبب درجات الحرارة التي تجاوزت 40 درجة مئوية ، ومن تداعيات موجة الحر أيضا كثرة الحشرات كالبعوض وغيرها وما تسببه من أمراض نتيجة لدغاتها الناقلة للعديد من الأمراض.
ويعرف الخبراء “موجة الحر” بأنها الحالة التي يرتفع فيها معدل الحرارة بنسبة خمس درجات لمدة لا تقل عن خمسة أيام على التوالي ، ومن هذا المنطلق توقع فلادمير كيندروفسكي من المكتب الأوروبي لمنظمة الصحة العالمية، أن تكون هناك “موجة حرارة شديدة كل عامين خلال النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين” ، الأمر الذى سيؤدى إلى خروج كوكب الأرض من العصر الدافئ إلى العصر الساخن.
وتتفاوت درجات موجات الحر من بلد لآخر، فثلاثين درجة مئوية في مصر والدول الواقعة جنوب أوروبا كإسبانيا وإيطاليا واليونان ليست مستوى استثنائيا، فيما تكون فى دول مثل بريطانيا أو إيرلندا وألمانيا ليست عادية على الاطلاق ، حيث أنه من النادر أن تتجاوز درجات الحرارة في شهر يونيو عشرين درجة مئوية ، وقد سجلت هذا العام ارتفاعا غير مسبوق لم يحدث من عقود ماضية.
انقسام عادى بين الخبراء والباحثين بشأن تحديد أسباب التغير المناخى على كوكب الأرض ، وفى أن تأثيراتها على البشر ربما تكون إيجابية وسلبية على حد سواء ، فمنهم من يرى أن السبب يعود لآثار الاحتباس الحراري، فيما يؤكد الفريق الثانى أن الأمر طبيعي ولا دخل للإنسان فيه ، والسبب يرجع هنا إلى قلة البحوث التى أجريت حول تأثيرات التغير المناخي على الصحة ووفرة الطعام والنمو الاقتصادي والهجرة والأمن والتغير الاجتماعي والمنافع العامة مثل مياه الشرب ، مقارنة بتلك الأبحاث التي أجريت حول التغيرات الجيوفيزيائية المرتبطة بالاحتباس الحراري العالمي مما أدى إلى تعميق هذا الإنقسام.
ولكن العديد من الدراسات أشارت إلى أن الآثار الحالية والمستقبيلة للتغير المناخي على الإنسان والمجتمع سلبية وستظل سلبية بصورة سائدة ، حيث تشير التنبؤات إلى أن الأعوام المقبلة ستشهد تزايدا متوقعا فى درجات الحرارة ، نظرا لعملية التغير المناخي الكبير الذى يرتبط في جذوره بطبيعة النشاط البشري والصناعي ، وكذلك بمفهوم التنمية المستديمة، الأمر الذي ينذر بحدوث كارثة بشرية إذا لم يتم مكافحة التلوث من خلال وضع قوانين وضوابط تقلل من حجمه وتعمل على إعادة التوازن لمدخلات النظام البيئي.
وأثبتت دراسة قام بها المركز الأمريكي الوطني للأبحاث أن الكرة الأرضية شهدت ارتفاعا في متوسط درجة حرارتها لم تشهده منذ 400 عام ، وأن هذا الارتفاع مرشح للزيادة ، ومثل هذا الاستنتاج توصلت إليه أيضا وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية “ناسا”، حيث سجلت دراساتها ارتفاع معدل درجة حرارة كوكب الأرض منذ عام 1890 خمس مرات، جميعها وقعت في العقد الأخير، أي في السنوات مابين 1998 الى 2005 ، مما يدق مجددا ناقوس الخطر ، ويؤكد حتمية وضع حد لظاهرة الاحتباس الحراري والتغير المناخي الذى بات ظاهرة تؤرق جميع الدول بدرجات متفاوتة ٠
تدهور النظام المناخي العالمي جاء نتيجة للسياسات العالمية للدول الصناعية مما أثر في تفاقم هذا الوضع، فربع كمية الغازات المنبعثة في العالم تنطلق من الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.. وتسبب التغير المناخي في حدوث تغيرات خطيرة وربما تكون دائمة في حالة كوكب الأرض الجيولوجية والبيولوجية والنظم البيئية ، وتشير اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن “هناك دليلا جديدا وأكثر قوة على أن معظم الارتفاع الملحوظ فى درجات الحرارة الملاحظ على مدى الخمسين عاما الماضية يمكن نسبتها إلى الأنشطة البشرية”.
وأدت هذه التغيرات إلى حدوث الكثير من المخاطر البيئية التى تؤثر على صحة الإنسان، ومنها شعوره بالتعب وانخفاض عام في الأداء الذهني والبدني خاصة في أوقات العمل ، إلى جانب ما يترتب على تآكل طبقة الأوزون من اثار سلبية على الحياة ، وكذلك اختلال التنوع الحيوي، ونقص الغذاء وخلل الأنظمة المنتجة للغذاء وانتشار الأمراض المعدية بشكل عالمي ، حيث قدرت منظمة الصحة العالمية وقوع ١٦٠ الف حالة وفاة منذ 1950 مرتبطة بصورة مباشرة بالتغيرات المناخية.
وغالبية الآثار العكسية للتغير المناخي تعاني منها المجتمعات الفقيرة، وذات الدخل المنخفض حول العالم، ولا تؤثر التغيرات المناخية على الكائنات الحية فحسب بل إنها تؤدى إلى تشوهات وعيوب فى المبانى ناجمة عن أسباب مناخية وعوامل بيئية طبيعية تؤدى إلى خلل به ، يستوجب اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لتلافي حدوثها، ومحاولة قياسها لعلاجها حتى لا تؤثر على العمر الافتراضي للمبنى ، أو تتسبب فى خسائر بشرية ومادية إلى جانب والتلوث البصرى والتأثير على صحة القاطنين فيه.
وتبقى الصحة العامة في دائرة الخطر ، حين تجتمع ظروف جوية معينة بتكاثف الرطوبة ودرجات الحرارة العالية، والنتيجة مشاكل في الدورة الدموية وفي الجهاز التنفسي، إضافة إلى الربو وأعراض أخرى كاضطرابات النوم وغيرها حسب منظمة الصحة العالمية… ويعتبر المسنون والأطفال من أكثر الفئات العمرية المتضررة، خصوصا الذين يقطنون المدن والمناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية الكبيرة.
ذلك فإن توفر أنظمة التبريد خلال موجات الحر أمر حيوي، ولا يشمل تكييف الهواء فقط، ولكن أيضا القدرة على تخزين الأدوية والمواد الغذائية، وهو ما ليس متاحا للملايين من الناس، لكن المفارقة هو أن أجهزة التبريد والتهوية هذه تعتبر في الوقت ذاته سببا من أسباب ارتفاع الحرارة والتحول المناخي.
ويتوقع الخبراء زيادة في عدد أجهزة التبريد في العالم في أفق عام 2050 بمقدار أربعة أضعاف ليصل العدد لـ 14 مليار جهاز… وفي حال لم يتم إيجاد حلول مستدامة فإن نسبة انبعاثات الغاز ستزداد بشكل لا يطاق، ما سيجعل تحقيق أهداف معاهدة باريس بعيدة المنال.
وأكدت دراسة علمية حديثة أن الموجات الحارة لها تأثير كبير على عمل الفرد وإنتاجه، إذ أنها تجعل تفكيره أبطأ مما يؤدي إلى فقدان التركيز وتشتت الانتباه. كما أن الحرارة المرتفعة لا تؤثر على البالغين فقط، وإنما تؤثر على الأطفال أيضا وإن كانوا يتمتعون بصحة جيدة.
وتوقع العلماء أن يؤدى الفشل في وضع حد للتغير المناخي إلى إجبار عشرات الملايين من البشر إلى الفرار من أوطانهم… وكشف تقرير لمنظمة “أوكسفام” الخيرية بعض تفاصيل حول موجات النزوح على إثر التغيرات المناخية، مشيرا إلى أنه بين عامي 2008 و2016 نزح حوالي 21.8 مليون إنسان بسبب الكوارث المناخية المفاجئة.
المصدر : أ ش أ