يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مأزقا جادا خلال الفترة الراهنة متمثلا في التراجع المستمر في شعبيته داخل الأوساط الفرنسية، وهو ما يشكل تحديا خطيرا لخططه الإصلاحية خلال السنوات المتبقية من ولايته الرئاسية.
فقد أظهر آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “ايفوب” ونشرته جريدة “لوجورنال دو ديمانش” الفرنسية هذا الأسبوع تراجع نسبة التأييد للرئيس ماكرون لتصل إلى 29% بتراجع 5% عن الشهر الماضي و10% عن الشهر الذي يسبقه.
وكشفت استطلاعات أخرى للرأي أجريت خلال الشهر الجاري التراجع المستمر في شعبية الرئيس الفرنسي، كان أبرزها استطلاع معهد “أودوكسا” الذي أوضح أن سبعة من كل عشرة فرنسيين بات لديهم حكم سلبي على الرئيس ماكرون.
ووفقا للمراقبين، تتعدد الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور الملحوظ في شعبية الرئيس الفرنسي، والتي أفقدته أكثر من عشرين نقطة منذ العام الماضي. أولى هذه الأسباب أزمة الحارس الشخصي “ألكسندر بينالا” والذي اتهم في يوليو الماضي بارتكاب أعمال عنف ضد المتظاهرين أثناء حضوره مظاهرة عيد العمال بباريس، وانتحال وظيفة ضابط شرطة واستخدام بطاقات مخصصة للسلطات العامة.
وحظيت هذه الأزمة باهتمام الرأي العام في فرنسا ونجحت المعارضة في استغلالها لتوجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس ماكرون الذي اهتزت صورته وتراجعت ثقة المواطنين فيه بصورة ملحوظة، حيث أنها قضت على الصورة المثالية للرئيس أمام الرأي العام الفرنسي وشككت في شفافيته ومصداقيته وقدرته على القيام بالدور المنوط به وهو حماية مؤسسات الدولة كما أفقدته شريحة كبيرة من مؤيديه.
وبعد شهر من أزمة “بينالا”، جاءت الاستقالة المفاجئة لوزير البيئة الفرنسي “نيكولا هولو” لتضع الرئيس ماكرون من جديد في مأزق صعب، حيث أعلن هولو استقالته المفاجئة من منصبه في 28 أغسطس الماضي احتجاجا على سياسات الحكومة. وهولو من أكثر الوزراء الفرنسيين الذين يحظون بشعبية واسعة لدى الفرنسيين وزادت شعبيته أكثر بعد قرار الاستقالة بنسبة 12% لتصبح 53% وذلك وفقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد “ايبسوس” في السابع والثامن من سبتمبر الجاري، أي بعد قرار الاستقالة بعشرة أيام.
وبعد قرار الاستقالة أجرى ماكرون تعديلا حكوميا أوائل سبتمبر الجاري ، حيث عين رئيس الجمعية الفرنسية السابق فرانسو دو روجي كوزير جديد للبيئة بدلا من هولو، وروكسانا ماراسينو وزيرة للرياضة بدلا من الرياضية السابقة لورا فليسيل التي أعلنت قبل ساعات قليلة فقط من التعديل الحكومي مغادرتها لحكومة إدوار فيليب “لأسباب شخصية”.
ثم جاء إعلان وزير الداخلية جيرار كولومب الأسبوع الماضي أنه سيستقيل من منصبه بعد الانتخابات الأوروبية عام 2019 للترشح إلى رئاسة بلدية ليون، ليضيف مزيدا من القلق والإرباك للرئيس ماكرون، حيث أن كولومب من أكثر الوزراء قربا من الرئيس الفرنسي هو ما أكده في مقابلته مع مجلة “لكبريس” عندما أشار إلى أن علاقته بماكرون تشبه علاقة الأب بابنه، وبالتالي فإن قرار مغادرته قد ساهم في تعقيد المشهد أمام الرئيس الفرنسي.
من ناحية أخرى فإن تباطؤ النمو الاقتصادي واستمرار المعدلات المرتفعة للبطالة، على الرغم من السياسات الإصلاحية التي يتبناها ماكرون منذ توليه الرئاسة، قد ساهم بشكل رئيس في تراجع شعبية الرئيس. فقد بلغت نسبة النمو الاقتصادي الفرنسي 1.7% بعدما كانت مقررة 1.9% بينما لاتزال نسبة البطالة 9%.
ورغم إعلان باريس أنها ستخفض العبء الضريبي على الأسر والشركات بنحو 25 مليار يورو في العام المقبل إلا أن الكثيرين داخل الأوساط الفرنسية يواصلون وصف ماكرون بأنه رئيس الأغنياء ، حيث يرون أن معظم سياساته تصب في مصلحة الأغنياء والطبقات العليا والتي كان من بينها قراره بخفض الضرائب على الفئات الغنية والشركات في العام الأول من ولايته الرئاسية بينما قام بخفض فوائد الإسكان ورفع ضرائب الضمان الاجتماعي التي أضرت بشكل مباشر بأصحاب المعاشات التقاعدية.
وفي محاولة لاحتواء هذا الاستياء الشعبي والتخلص من صورة “رئيس الأثرياء” التي ألصقت به، أعلن ماكرون في بداية الشهر الجاري عن خطته لمكافحة الفقر والتي قُدّرت تكلفتها بـ 8 مليارات يورو في أربع سنوات، ومن المقرر أن تدخل حيّز التنفيذ في الأول من يناير 2019.
ومن أهم ما تضمنته هذه الخطة مراجعة المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة، والغرض منها تأمين الحد الأدنى للعيش، والذي عادة لا يسمح بالوصول إلى عتبة الفقر، ولكنه يمنح موارد ضرورية من أجل البقاء على قيد الحياة والإفلات من الفقر الشديد.
كما تضمنت الخطة زيادة دور حضانة الأطفال في الأحياء الفقيرة، وزيادة عدد المستفيدين من نظام “التغطية الصحية الشاملة”، تمديد إلزامية التكوين من سن السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة، وتعميم إجراء “ضمانة الشباب” بالنسبة لمن هم بين 16 و25 سنة والبعيدين عن الشغل، بحيث سيشمل 500 ألف شخص قبل نهاية ولايته، مقابل 100 ألف شخص حاليا.
ورغم محاولات ماكرون استعادة ثقة المواطنين وكسب تعاطفهم من خلال خفض الضرائب وخطة الفقر، غير أن معظم المراقبين يجدون أن المشهد يزداد تعقيدا بالنسبة للرئيس الفرنسي خاصة وأن الكثيرين ينتقدونه ، ويقولون أنه منذ توليه الرئاسة أصبح المحور الرئيس لأي قرار أو خطة ، ويرجع البعض ذلك إلى غياب الخبرة السياسية في فريق العمل المحيط به وحداثة الوزراء والنواب الموالين له في المجال السياسي ، وهو ما جعله يحتل موقع المرجع الأول والوحيد في كل صغيرة وكبيرة من قضايا البلاد.
غير أن هذا التفرد لم يساعد في جعل الرئيس الفرنسي قريباً من مواطنيه، بل العكس لأنه ولّد انطباعاً متزايداً بأنه غير مهتم بهموم الفرنسيين ومشاكلهم وهو ما ساهم في تفاقم حالة الاستياء الشعبي.
أزمات متتالية تلاحق الرئيس الفرنسى وملفات اقتصادية واجتماعية تشكل عائقا في طريقه وهو ما أدى بدوره إلى تقليص قاعدته الشعبية وتراجع مؤيديه. ويرى فريق من المراقبين أن هذه الأزمة قد يظهر أثرها بصورة أوضح على المديين المتوسط والبعيد، ففي حالة عدم تداركه للأزمة وعدم نجاحه في احتوائها، ستتحول هذه الأزمات إلى “سم بطئ” قد يعاني منه طوال مدة ولايته وقد تؤثر سلبا على فرص ترشحه لولاية جديدة في عام 2022.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)