يُفترض بالموسيقى أن تكون لغة عالمية ولسانا ينطق بمعان لا تستطيع الكلمات ان تعبر عنها. وعُرف هانز كريستيان اندرسن بطرحه هذه الفكرة حين قال “حين تفشل الكلمات تتكلم الموسيقى”.
عندما أرسلت وكالة الفضاء الاميركية المركبة فويجر إلى الفضاء عام 1977 أخذت معها شريطا منوعا سُجلت عليه مجموعة من أعظم الأعمال الموسيقية بأمل ان تفهم الأشكال الأخرى من الحياة في الفضاء الخارجي جنسنا البشري عن طريق الموسيقى.
وتكشف هذه الخطوة شيئا مهما عن قدرة الموسيقى الاستثنائية على التواصل متخطية كل الحدود حتى ان كائنات مختلفة تماما يمكن ان تقدرها.
ولعل الموسيقى قادرة على التحدث مع الآلهة والمخلوقات الفضائية على السواء ولكن ما تقوله ليس معروفا على وجه التحديد. وتنحو المحاولات الرامية إلى ترجمة الموسيقى إلى لغة بشرية إلى التعبير عنها بمفردات السحر الشعري أو الرياضيات التقنية.
وتوجد بين هاتين النهايتين القصويين آلة تُسمى Music Animation Machine اخترعها المؤلف الموسيقي والمبرمج ستيفن مالينوفسكي. وتترجم برمجيته العناصر الأساسية للموسيقى مثل النغمة والايقاع والهارموني والجرس إلى لغة بصرية من الخطوط والألوان والأشكال.
وتمثل كل سمة بصرية عنصرًا معينًا من عناصر الموسيقى. فان حجم الأشكال وموقعها يمثلان النغم والايقاع على سبيل المثال بحيث يجعل حتى التركيبات الموسيقية المعقدة ظاهرة بصورة حدسية.
وقد تمثل موجة متصاعدة من الدوائر الخضراء خطا نغميا صاعدا في سوناتا من سوناتات موزارت.
ويمكن تفكيك التعدد الصوتي الكثيف لفوغا موسيقي في احد اعمال باخ إلى خطوط تكوينية من المثلثات الحمراء والبرتقالية والخضراء تتشابك وتتداخل فيما بينها. وتكون النتيجة ترجمة الموسيقى ترجمة شعرية ودقيقة في آن واحد، وطريقة لرسم خريطة الأصوات في صور تجمع بين الرياضي والفني.
ونشر مالينوفسكي على يوتيوب أكثر من 350 فيديو لعمل آلته شوهدت أكثر من 140 مليون مرة.
وعُرضت ترجماته البصرية الحية للموسيقى على شاشات عملاقة خلال حفلات موسيقية حية في قاعة كارنيغي، ويشكل عمله جزء من عرض دائم لموسيقى بيورك في متحف الفن الحديث في نيويورك.
ولكن طموحات مالينوفسكي لا تدور حول القاعات والمتاحف فحسب بل يريد ان يجعل هذا العالم المرهف من الترجمة البصرية للموسيقى الكلاسيكية في متناول جمهور أوسع.
وقال مالينوفكسي في مقابلة مع صحيفة ذا ديلي بيست في منزله الذي احتلت غرفيتن منه الكومبيوترات والأسلاك وآلات البيانو “ان الشيء الرئيسي الذي تعلمته هو ان الفهم يزيد المتعة”.
وأضاف “انت تستطيع ان تفهم تسعة اشياء من مجموع عشرة في قطعة موسيقية ولكنها لا تعجبك إلى ان تفهم العنصر العاشر منها.
وعندما تعجبك قطعة فأنت لا تعرف ما فاتك بالمعنى الحرفي للعبارة”.
ويصح هذا بصفة خاصة على الأعمال المعقدة والصعبة مثل طقوس الربيع لسترافنسكي وفوغه في السلالم الكبيرة لبيتهوفن اللذين ترجمهما مالينوفسكي بصريا. وتساعد ترجمته التي سجلها على اشرطة فيديو في توضيح التعقيدات المنمطة التي تمنح العملين قوتهما الهائلة.
ويعزو مالينوفسكي مصدر الالهام وراء تصميم آلته العجيبة إلى اوائل السبعينات حين كان طالبا في العشرينات يدرس التأليف الموسيقي.
وكان يستمع ذات يوم في بيت صديق إلى احد اعمال باخ تحت تأثير المخدرات.
وما حدث بعد ذلك صعب على الوصف ولكن مالينوفسكي يتذكر شعوره بامتلاك قوى بصرية خارقة اتاحت له تعقب كل لحظة في العمل الموسيقي بدقة متناهية. وقال إنه رأى احساسا بالحركة في النوتة الموسيقية، احساسا راقصا، جعله يمر بخبرة “قوية رائعة”، على حد وصفه.
ولكن رؤية مالينوفسكي للموسيقى لم تكن نزوة غريبة لعقل لعبت به المخدرت بل عمل على تطوير نظام دقيق من القواعد التي تحكم التطابق بين النوتة والصورة، متوصلا إلى طريقة لجعل قواعد الموسيقى النحوية المعقدة مفهومة بصريا.
وفصلت هذه الدقة والصرامة التقنية فكرته عن الفنطازيات البصرية الأخرى التي توحي بها الموسيقى.
ولم تكن التكنولوجيا متاحة في السبعينات لتصميم برمجية مالينوفسكي وتوزيعها، ولم يكن يعرف البرمجة.
وكل ما كان يستطيع ان يفعله هو رسم تصميم لآلته على ورق مخطط ما زال يحتفظ به ملفوفا في مكتبه.
ويبدو مخطط الآلة بدقة هندسته وثراء الوانه كأنه مخطوطة قروسطية.
وفي التسعينات اخذ يبيع اشرطة فيديو لترجمته الموسيقى بصريا عن طريق البريد ولكن التكنواوجيا تطورت منذ ذلك الحين بظهور يوتيوب في اوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وتقاعد مالينوفسكي عن وظيفته اليومية في البرمجة ليكرس وقته إلى ترجمة الموسيقى وتصميمها بصريا.
وتعتبر 140 مليون مشاهدة على يوتيوب لأعماله الغرافيكية شهادة تزكية لآلته في ترجمة الموسيقى إلى تصاميم بصرية. كما يتلقى سيلا دائما من النوتات الموسيقية يطلب اصحابها ترجمتها بصريا.
ويعتقد مالينكوفسي ان التصميم البصري الذي يستوحي الموسيقى ما زال في طفولته فنيا. وهو يتعاون حاليا مع الموسيقار السويسري اتيين ايبلين وشركة سويسرية لتطوير برنامج يتيح لكل شخص ان يصمم بنفسه ترجماته البصرية للموسيقى.
وتوجد على موقعه الالكتروني خريطة غريبة تلخص التاريخ البشري في ثنائيات من عمودين. ففي عالم الأزياء يظهر في عمود انسان الكهف ملفعا بالفرو وفي العمود الثاني رجل انيق بطقم مفصل على مقاسه. وفي العمارة يضع كوخا بسيطا من القش بجوار الداخل المهيب لكاتدرائية.
وتتعلق الفقرة الأخيرة بترجمة الموسيقى بصريا التي يضعها في المراحل الابتدائية لنشوئها. فهو يعرض في عمود لقطة من احد افلام الفيديو التي يسجلها لترويج آلته ويترك في العمود الآخر علامة استفهام.
المصدر: وكالات